الإعطاء، وهو بمعنى الإنزال هنا، ويصح أن يكون بمعنى: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام، والأنباء والقصص، وغير ذلك.
والكتاب هنا: التوراة، والمعنى أنكم نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملًا بعد موسى عليه السلام، بل ضبطنا أمركم بالكتاب.
{وَقَفَّيْنَا}: أصل هذا اللفظ أن يجيء الإنسان تابعًا لقفا الَّذي اتبعه، ثم توسع فيه حتَّى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمن المتبوع عن زمان التابع، والضمير في {مِنْ بَعْدِهِ} يرجع إلى موسى عليه السلام، أي: ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الَّذي تركه فيكم موسى، بل واترنا من بعده إرسال الرسل مواترة، وجعلنا بعضهم في قفا بعض، ليجددوا لكم أمر الدين، ويؤكدوا عليكم العهود.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} الَّذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة، وتجديد ما درس من بقيتها {الْبَيِّنَاتِ} من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها. والبينة من القول: ما لا ينازعه منازع لوضوحه، وما أوتيه عيسى بن مريم من المعجزات الواضحات والحجج كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات، هو كذلك، وإنما أضاف عيسى إلى أمه ردًا على اليهود فيما أضافوه إليه، ونسبوه إلى ما لا يليق بمقامه العالي، وأثبت له النبوة والرسالة أيضًا، ردًا عليهم في إنكار رسالته.
{وَأَيَّدْنَاهُ} أي: قويناه على ذلك كله {بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي: الروح الطاهر فأعطيناه روحًا مقدسة قوية تقدر على حمل الرسالة وأدائها، فكان الغالب عليه الروحانية، ويصح أن يراد بالروح هنا: الإنجيل، وسمي بذلك لأنَّ الدين يحيا به، وتنتظم مصالح الدنيا لأجله، ومن ثم سمي القرآن: روحًا. والذي جنح إليه الطبري والرازي: أن المراد بروح القدس هنا جبريل عليه السلام، وتفسير القرآن على إطلاقه أولى، وإنما أجمل تعالى ذكر الرسل، ثم فصل ذكر عيسى لأنَّ من قبله من الرسل جاؤوا بشريعة موسى، فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأنَّ شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليهما السلام.