والبارئ معناه: التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته، وقوله:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، معناه: أن توبتكم بقتل أقاربكم، وإن كانوا آباء أو أبناء، عبر عنهم بالنفس لذلك، فكأنه يقول: اقتلوا أنفسكم التي أوجدها بارئكم فقادتكم إلى غيره، ولما كان ما أمرهم به أمرًا لا يكاد يسمح به عظم الرغبة فيه، فقال:{ذَلِكُمْ} الأمر العظيم، وهو القتل، {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} القادر على إعدامكم، كما قدر على إيجادكم، وفي التعبير بالبارئ ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان، وترهيب بإيقاع الهوان، فإن فعلتم ذلك فقد تاب عليكم مع عظم جرمكم، ثم علل ذلك بقوله:{إنَّه} أي: لأنه {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} , أي: ما زال هذا صفة له، لا لاستحقاق منكم عليه.
واختلف المفسرون في تفسير القتل، فذهب أكثرهم إلى أن الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوه، وفسروا {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} بالاستسلام للقتل. وفسر صاحب الكشاف اقتلوا أنفسكم بالبخع، وهو القتل غمًا، وظاهر التلاوة يشير إلى معنى القتل على حقيقته، وما يذكره القوم من كيفية، فإنما ظن وتخمين.
ولمَّا استتيبوا من عبادة العجل الذي يضرب به المثل في الغباوة، وطلبوا رؤية بارئهم بالحس على ما له من صفات الكمال، ناسين جميع النعم والنقم، مسرعين في الكفر الذي هو من شأن الحائر، فكان من أمرهم ما أخبر به تعالى في قوله:
هذه الآية تدل دلالة صريحة على أن القوم كانوا يعتقدون التجسيم في حق البارئ سبحانه وتعالى، وعلى ذلك تدل التوراة التي بأيديهم اليوم. وقد ذكر الله تعالى معتقد أسلافهم وبلادتهم، في قوله:{وَإِذْ قُلْتُمْ}، بعدما رأيتم من الآيات وشاهدتم، من الأمور البينات:{يَامُوسَى}، دعوه باسمه جفاء وغلظة كما يدعو