للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالتضرع، لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه، فـ {من} من قوله تعالى: {ومن يرغب} اسم استفهام إنكاري، ولذلك دخلت إلا بعد، والمعنى: لا أحد {يرغب عن مِلة إبراهيم}، التي هي دعاؤه وتضرعه إلى الله، وطلبه منه بعثة هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته.

ولما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم محقًا بمقاله، وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص، وذلك لأن هذا الخبر المخبر عن دعاء إبراهيم بإرسال ذلك الرسول، شاع بين تلك الأمم، ولم ينكره منكر منهم، فدل على أنهم سلموه، وليس المراد بالـ {ملة} هذه عين ما جاء به الرسول، لأنه يرد عليه حينئذٍ أن يقال: إن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو، إما أن يكون عين ملة إبراهيم في الأصول، أعني: التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق، وفي الفروع أيضًا، أو أنها عينها في الأصول فقط؟ وأيًا ما كان فهما يختلفان في فروع الشرائع، وكيفية الأحكام.

والمختار: أن الملة هنا هي الأصول التي لا تختلف بمر الأعصار، وكر الدهور، وهي الدعاء إلى توحيد الله وحده، وترك عبادة الأوثان والأصنام، ونفي التجسيم الذي تدعيه اليهود، والحلول والتثليث الذي تدعيه النصارى، وعبادة الأصنام والأوثان التي عكف عليها العرب، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣].

وقوله تعالى: {إلا من سفه نفسه} معناه: امتهنها واحتقرها، واستخف بها، أي: فعل بها ما أدى إلى ذلك، وقال الشيخ عبد العزيز الديريني في كتابه "التيسير":

سَفِة أي: ضَيَّع، قَدر جنسه ... والنفس (١) قل: تقديره في نفسه

وقيل: [أي] (٢) أهلكها، وقل: جَهل ... فهو على المفعول منصوبًا حُمِلْ


(١) في "التيسير" ص ٢٠ طبع مطبعة التقدم بمصر- بدلها: والنصب.
(٢) زيادة من "التيسير".

<<  <   >  >>