وهذا علامة عدم البصيرة، فإنك تراه يستحسن الشيء وضده، ويمدح الشيء ويذمه بعينه، إذا جاء في قالب لا يعرفه، فيعظم طاعة الرسول ويرى عظيمًا مخالفته، ثم هو من أشد الناس مخالفة له، ونفيًا لما أثبته، ومعاداة للقائمين بسنته، وهذا من عدم البصيرة؛ ثم قال: وتحت كل من هذه الأقسام أنواع لا يحصي مقادير تفاوتها إلا الله، قال بعض السلف: وما أوتي أحد أفضل من بصيرة في دين الله، وكان بعض السلف الصالح يقول عن الدين الإسلامي:"يا له من دين لو أن له رجالًا".
ثم إنه تعالى، أخبر عن القوم، بأنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى، إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره، من حالهم إلى وقت دون وقت، وحال دون حال، فقال:{فهم لا يرجعون}، أي: لا يقلعون عن ضلالتهم، ولا يثوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فأيس المسلمون من أن يبين هؤلاء رشدًا، ويقولوا حقًا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين، وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وغشي على أبصارهم.
التمثيل الأول والثاني، من جملة تشبيه هيئة بهيئة، دون تشبيه مفرد بمفرد، والتمثيلات المركبة أبلغ من التمثيلات المفردة، وذلك لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها، فإنك إذا تصورت حال من أخذهم الصيب، وهو المطر النازل المنحدر المدرار، في ليلة أرخت سدولها وتكاثفت ظلماتها، بما تراكم بها من السحب، وصارت قطراتها منتسجة مع بعضها بعضًا، وتواترت فيها الرعود الهائلة، والبروق المخيفة، والصواعق المختلفة