للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن قالوا: إن الحكيم لا يحظر، أي: لا يحرم شيئًا ثم يبيحه، قلنا: إن من أمر بشيء وضده في زمانين مختلفين، كان غير مناقض بين أوامره، وإنما يكون كذلك لو كان الأمران في وقت واحد.

فإن قالوا: إن التوراة حظرت أمورًا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ المكروه هو إباحة المحظور، لأن من أبيح له شيء، فامتنع عنه وحظره على نفسه فليس بمخالف، وإنما المخالف من منع من شيء فأتاه لاستباحته المحظور.

فالجواب: إن من أحل ما حظره الشرع في طبقة المحرم لما أحله الشرع، إذ كل منهما قد خالف المشروع، ولم يقرأ الكلمة على معاهدها، فإذا جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم عليه السلام، ومن تبعه على استباحته، فجائز أن يؤتى بشريعة أخرى، بتحليل ما كان في التوراة محظورًا، وأيضًا فلا تخلو المحظورات من أن يكون تحريمها مفترضًا في كل الأزمنة، أم لا؟ فإن كان الثاني، فقد لزمتكم الحجة، وإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكره الله ذلك المحظور لعينه، وإما أن لا يكرهه لعينه بل نهى عنه في بعض الأزمنة، فإذا كان الله نهى عن عمل الصناعات في يوم السبت لعين السبت، فينبغي أن يكون هذا التحريم على نوح وإبراهيم وآدم، لأن عين السبت كانت أيضًا موجودة في زمانهم، وهي على التحريم، وإذا كان ذلك غير محرم على إبراهيم ومن قبله، فليس النهي عنه لعينه، أعني في جميع أوقات وجود عينه.

فإذا لزمكم أن تحريم الأعمال الصناعية يوم السبت ليس بمحرم في جميع وجود أوقات السبت، فليس بممتنع أن ينسخ هذا التحريم في زمن آخر، وإذا ظهر قائم بمعجزات الرسالة وأعلام النبوة في زمن آخر بعد فترة طويلة، فجائز أن تأتي بنسخ كثير من أحكام الشريعة التي قبله، سواء حظر مباحاتها أو أباح محظوراتها.

وكيف يجوز أن يحاج بالبينة باعتراض فيما ورد به من أمر أو نهي، سواء وافق العقول البشرية، أو باينها، ولاسيما أن الخصوم قد طالما تعبدوا بِفَرائضَ مباينة للعقول، كطهارة نجاستهم برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها قبيل أوان الحج، ونجاسة ظاهرهم بذلك الرماد بعينه.

<<  <   >  >>