للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النصارى. والفرقة الثانية: وهم الفلاسفة، قالوا: إن الملائكة جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة ألبتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية، وأنها أكمل قوة منها، وأكثر علمًا منها، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إن هذه الجواهر على قسمين: منها ما هو بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ماهي لا على شيء من تدبير الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته، ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هم الملائكة المقربون، ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السماوات، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة.

هذه مذاهب الناس في هذا الجنس، قد أوردناها خالية من الدليل والتعليل، لضيق المقام عن ذلك، وربما يمر بك شيء من الاستدلال أثناء هذا الكتاب.

وحاصل ما يقال هنا: أن الله تعالى أخبرنا بأن له عبادًا سماهم الملائكة، وأن رسله الكرام أخبروا بوجودهم، والعقل يقول: إن الذي خلق الإنسان من طين وسواه، قادر على أن يخلق خلقًا من النور، يقال لهم: الملائكة، وخلقًا من نار يقال لهم الجن، فمن أثبت وجود الله وقدرته يرى أن ذلك جائزًا، ومن لم يثبت وجود الله لا كلام لنا معه، لأنه أنكر الأصل، فليس بعجيب أن ينكر الفرع، فلذلك قال المليّون في شأن الجن والشياطين: إنهم من الجواهر الغائبة عن حواسنا، وهي أجسام تتشكل بأي شكل شاءت، وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات، وتنفذ في منافذها الضيقة، نفوذ الهواء المستنشق.

وأما الفلاسفة فإنهم حكَّموا العقل المجرد في إثبات الجن، فقالوا: إن الجن لا تخلو من أن تكون أجسامًا لطيفة أو لا، فإن كان الأول لزم أن لا تقدر على الأفعال الشاقة، لأنها تتلاشى بأدنى قوة، وبأدنى سبب من خارج يصل إليها، وهو خلاف ما يعتقده القائل بوجودهم، فالقول به باطلٍ. وإن كان الثاني، وهو كونهم أجسامًا كثيفة لا نراها، فإنه غير مسلم أيضًا، لأنه يؤدي إلى جواز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها، وبوقات وطبول لا نسمعها، وهذا سفسطة فهو باطل.

<<  <   >  >>