للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قالوا: أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما، وكذلك طعن المنافقون في ضرب الأمثال بالنار والظلمات، والرعد والبرق، في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: ١٧] وطعن المشركون أيضًا كما طعن المنافقون، فأنزل الله هذه الآية، نداء على جهلهم بأساليب البلاغة وبيانًا، لأن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار، واستغربوه من أن تكون المحتقرات من الأشياء مضروبًا بها المثل، ليس هو مما يستنكر ويستغرب، من جهة أن التمثيل، إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وجعل المتوهم قريبًا من المشاهد، فإذا كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل، إذًا إلا أمرًا (١) تستدعيه حالة المتمثل له، وتستجره إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية، وعلى هذا درج البلغاء في محاوراتهم ومخاطباتهم، وهذه أمثال العرب قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا: "أجمع من ذَرَّة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد". ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزؤان والنخالة، وحبة الخردل، والدود والزنابير. ولكن سجية المحجوج المبهوت الذي لم يبق له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولًا.

وأنت إذا تأملت سوابق هذه الآية ولواحقها، وجدت أن هذه الآية تشير إلى أنها وردت جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال، في هذه السورة، وليست جوابًا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور، أمثال موافقة للمعنى لما أخبر عنه


(١) في الأصل: (إذًا الأمر) والتصويب من "الكشاف".

<<  <   >  >>