للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه الآية تقتضي أن القوم لما نزلت التوراة على موسى عليه السَّلام، امتنعوا عن قبولها، وعن العمل بما فيها من التكاليف وادعوا أن موسى عليه السَّلام افتراها من تلقاء نفسه، فجعل الله تعالى رفع الطور فوقهم، علامة على أنَّها من عند الله تعالى، ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة، وصار عامًا لهم- بحيث إنَّه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: ١٧١]- أسقط حرف الجر هنا، فقال: {فوقكم}، ولم يقل: من فوقكم {الطور}، ترهيبًا لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وقلنا لكم وهو مطل فوقكم: {خذوا ما آتيناكم} من الكتاب {بقوة} وبجد وعزيمة، {واذكروا مافيه}، واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه، ولا تغفلوا عنه {لعلكم تتقون}، رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو إرادة أن تكونوا من المتقين، ولما كان التقدير فأخذتم ذلك، وأوثقتم العهد به، خوفًا من أن ندفنكم بالجبل، عطف عليه بـ {ثم} المشيرة للبعد، إشارة إلى أنَّه كان من حقكم البعد عن التولي، فقال: {ثم توليتم}، أي: أعرضتم عن الأخذ به {من بعد ذلك}، وذلك أن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه، رجعت بذلك إلى نحو من الفطرة الأولى، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠]، ثم لم ترجع عنه إلَّا لمنازعة من الهوى شديدة، ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد، أدخل الجار، فقال: {من بعد ذلك}، أي: من بعد التأكيد على الوفاء به، ولولا تسبب عن توليكم أنَّه {لولا فضل الله عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة، والإكرام بالهداية، والنصر على الأعداء، {لكنتم من الخاسرين} بالعقوبة.

ودل قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه} على أن الإيمان في الجملة ليس بمنجٍ، وليس المنجي إلَّا الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما أتاهم في التوراة إيمانًا مصحوبًا بالقوة، يعني: بالاعتقاد الجازم بوجود الله والعمل بما في كتابهم عملًا خالصًا لله. وكان من جملة ما كلفوا به الإيمان بنبوة عيسى، ومحمد عليهما السَّلام.

<<  <   >  >>