والفرس، واليونان، والنصارى، والمسلمين، وما من هذه الأمم إلَّا من قصدهم أشد القصد، وطلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وإخرابها، وإحراق كتبهم إلَّا المسلمين، فإن الإسلام صادف اليهود تحت ذمة الفرس، ولم يبق لهم قبله مدينة ولا جيش إلَّا العرب المتهودة بخيبر، وأشد ما كان على اليهود من ذلك، ما أصابهم من ملوكهم العصاة، مثل:"أحاب، وأحزيا وأمصيا ويهورام ويربعام بن نباط" وغيرهم من الملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في تطلبهم ليقتلوهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنتها لتعظيمها وتعليم رسوم عبادتها، وابتنوا لها البيع والهياكل، وعكف على عبادتها الملوك ومعظم بني إسرائيل، وتركوا أحكام التوراة والشرع مدة طويلة، وأعصارًا متصلة.
فإذا كان هذا من تواتر الآفات عليهم من قبل ملوكهم، ومن أنفسهم فما ظنك بالآفات المتفننة التي تواترت عليهم من استيلاء الأمم فيما بعد عليهم، وقتلهم أئمتهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم إياهم عن القيام بشرائعهم، فإن الفرس كثيرًا ما منعوهم من الختان، وكثيرًا ما منعوهم عن الصَّلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى البلاد بالخراب، سوى بلادهم التي هي أرض كنعان، فلما رأت اليهود الجد في الفرس في منعهم من الصَّلاة، اخترعوا أدعية يدَّعون أنَّها (١) فصولًا من صلاتهم سموها الخزانة، وصاغو لها ألحانًا عديدة، وصاروا يجتمعون في أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها، والفرق بين هذه الخزانة وبين صلاتهم الأصلية، أن الصَّلاة بلا لحن، وأن المصلي يتلو الصَّلاة وحده ولا يجهر معه غيره، وأمَّا الخَزّان فيشترك جماعة بالجهر بالخزانة، ويعاونونه وينوحون أحيانًا على أنفسهم.
ومن العجب أن دول الإسلام يقرون أهل الذمة على أديانهم، وبذلك صارت الصَّلاة مباحة لهم، ومع ذلك فإن الخزانة صارت عند اليهود من السنن المستحبة في الأعياد والمواسم والأفراح، يجعلونها عوضًا عن الصَّلاة، ويستغنون بها عنها، من غير ضرورة تبعثهم على ذلك.