للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التوصل إلى المسببات إلَّا بأسباب التعاون والتعاضد، وحصول ذلك مشروط بارتباط القلب بالخالق أولًا ثم بحسن السياسة مع الوالدين، واكتساب رضائهما، ثم بحسن السياسة مع ذوي القربى، لأنَّ الارتباط معهما يسهل أسباب المعاش ويحصل به التعاون والتعاضد على التجارة والزراعة والصناعة، وليس إخلاص قريبك لك كإخلاص البعيد عنك لأنَّ قريبك إذا كان مخلصًا لك ربَّما قدمك على نفسه لما بينكما من عطف القرابة، ووداد الألفة والمحبة، بخلاف البعيد عنك، وإذا حصل التعاون والتعاضد والإحسان من القريب انبسط الرزق، ورأى الواصل لرحمه وأقاربه بركة في حياته ونوع هناء بها، فيكون كأنه في أجله، وشتان بين من ينقضي عمره في كدر، وبين من هو في يسر وبسطة عيش.

وأيضًا فإن الاشتغال بمقاومة الأقارب يضيع الأوقات فيما لا نفع فيه، وذلك كناية عن قصر العمر، ومسالمتهم ووصلتهم تجعل الأوقات متفرغة للأعمال العائدة على الواصل بالنفع، وهذا كناية عن التأخير في الأجل، من هنا انتزع ابن خلدون قوله في "مقدمة تاريخه": إن صلة الرحم طبيعي في البشر إلَّا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا، فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبًا جدًا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام، كانت تلك الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها، وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها، ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارًا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه.

ومن هذا الباب الولاء والحلف، إذ نعرة (١) كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النَّفس من اهتضام جارها، أو قريبها، أو نسيبها بوجه من


(١) غير واضحة في الأصل ولعلها النغرة: الحقد، وغلا جوفه غضبًا، ويمكن أن تكون (النفرة) ولها وجه.

<<  <   >  >>