للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حياتهم في هذه الدنيا، وأتم وأطيب، وإن كانت أجسادهم متلاشية، ولحومهم متمزقة، وأوصالهم متفرقة، فإن الحياة الدنيوية محفوفة بالكدر، محاطة بالتنغيص، مسجونة الأرواح في سجنها؛ فإذا خلصت من ذلك السجن، أفضى بها الخروج إلى روح وريحان وصفاء لا كدر معه، وكيف يشوبها كدر وهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: ١٦٩ - ١٧٠]، فما حياتهم في الدنيا بالنسبة إلى تلك الحياة، إلا كحياتهم في بطون أمهاتهم بالنسبة إلى خروجهم إلى الدنيا، ولكننا في الدنيا لا نشعر بتلك الحياة كما قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} وأي شعور لنا بما لم نحط به علمًا؟

وقال في "روح البيان": حياة الشهداء حياة برزخية يتنعمون بها، لأنهم أجسام لطيفة كالملائكة، فإنهم موجودون أحياء.

وقال الفناري في تفسير سورة الفاتحة: كل نعيم يتنعم به الصديقون والشهداء والصالحون في البرزخ خيالي، وكل عذاب كذلك. انتهى.

ولكن ما ذكرناه أتم وأصفى، ومن الناس من لم ينتبه للسر المودع في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فقال: معنى كونهم {أَحْيَاءٌ}، أنكم لا تطلقوا اسم الموت على من {يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ولكن قولوا: هم {أَحْيَاءٌ}، فجعل المنهي عنه إطلاق اسم الموت عليهم. وقيل: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها، ويوصل إليها النعيم، وإن كانت في حجم الذرة، وقيل: {أَحْيَاءٌ} بإحيائه وبقائه وثبوت الأجر. وقيل: هذه الحياة بقاء أرواحهم دون أجسادهم، وقال أكثر المفسرين: إنهم في الوقت أحياء، كأن الله أحياهم لإيصال الثواب إليهم، واختار هذا القول الفخر الرازي.

ولما كان البشر من شأنه أن لا يخلص من الشوائب إلا بعد معاناة شديدة، تصفيه منها كما يصفى الذهب بالنار الشديدة، قال تعالى معلمًا لنا التربية بما حصل به التصفية، عطفًا على ما أرشد إليه من مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار:

<<  <   >  >>