وقال آخرون: عني الله بقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ} اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود تصلي فتوجه قِبل المغرب، والنصارى تصلي فتتوجه قِبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية؛ يخبرهم فيها أن البر غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية؛ وبمثل هذا قال قتادة، والربيع بن أنس.
وهذا القول يدل عليه سياق الآيات, لأن الآيات التي مضت كانت موبخة لليهود والنصارى، ولائمة لهم، ومخبرة عنهم، وعما أعد لهم من أليم العذاب. وهذه الآية في سياق ما قبلها، فينبغي أن يكون المعنى:{لَيْسَ الْبِرَّ} أيها اليهود والنصارى، أن يولي بعضكم وجهه {قِبَلَ الْمَشْرِقِ و} بعضكم قبل {الْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية.
وعلى القول الأول المشعر بأن الآية نزلت في المؤمنين، يكون المعنى: أنه نهاهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء، كما تعلق أهل الكتابين، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة، على ما بينه الله.
أخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، قال: كان الرجل قبل الفرائض، إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، يرجى له، ويطمع له في خير، فأنزل الله:{لَيْسَ الْبِرَّ} الآية. وكانت اليهود توجهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله هذه الآية. انتهى.
وهذا القول كأنه جمع بين القولين، وعليه فالآية عامة للفريقين، وهو أولى ما تفسر به.
وقوله:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} معلوم أن {الْبِرَّ} معنى من المعاني، فلا يكون خبره الذوات، التي هي هنا، {مَنْ آمَنَ} إلا مجازًا، فإما أن يجعل {الْبِرَّ} هو نفس {مَنْ آمَنَ} على طريق المبالغة، قال أبو عبيدة: والمعنى: {وَلَكِنَّ} البار، وإما أن يكون على حذف من الأول، أي:{وَلَكِنَّ} ذا البر، قاله الزجاج؛ أو من الثاني، أي:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنْ آمَنَ}؛ قاله قطرب. وعلى هذا خرجه