للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الأئمةُ: هذا نَهْيُ إِرْشَادٍ معناه: لا تعمروا طمعاً في أن يعود إليكم، واعلموا أن سبيله المِيرَاثُ، ولأنَّ مِلْكَ كلِّ أَحَدٍ يتقدر بحياته، وليس في جعله له مدَّةَ حياتِهِ مانِعاً في انتقاله إلَى ورثته من بعده، بلْ هو شرطٌ لِلانتقالِ.

والقَديمُ: أنَّهُ ليْسَ كذلك؛ لما رُوِيَ عن جابِرٍ -رَضِيَ الله عنه- أنَّه قال إنَّما العُمْرَى الَّتي أجازَهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعِقتِكَ مِنْ بَعْدِكَ (١). واختلفوا في كَيْفِيَّة القَوْل القديم، فالظَّاهر، وهو المذْكُور في الكتاب أنَّ العَقْدَ باطلٌ مِنْ أصله؛ لأنَّهُ تمليك عَيْنِ قدَّره بمدة، فأشْبَه ما إذا قال: وهَبْتُ منْك أَو أعْمَرْتُكَ سَنَةً.

وعَنْ أبي إِسْحَاقَ أنَّ في القَدِيم تكونُ الدَّارُ للمعمَّرِ حياتَهُ فإذا مات عادت إلى المُعَمِّر أو ورثَتْه كما شرَطَ، واحتجَّ له بقوله في الحَدِيثِ السَّابِق: "أَيُّما رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ، وَلِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ" (٢) شرَطَ في قَطْعِ الرُّجُوعِ أنْ يُعْمِرَ له وَلِعَقِبِهِ مِنْ بعده.

وفي "التَّهْذيب" أنَّ أبا إِسْحَاقَ قال في القديم: إنَّها تكُونُ عَاريةً متَى شَاء، استردَّها، فإذا مَاتَ، عادَتْ إلى المُعْمِر.

وهذا قريبٌ من مذهب مَالِكٍ وهو أنَّ منافع الدَّارِ لِلْمُعْمِرِ حَيَاتَهُ، فإذا مات، عادَتْ إلى المُعْمِّر، إلاَّ أنَّ العارية المؤقَّتة عنْده لازمِةٌ، فلَيْسَ له الرُّجُوعُ متَى شاء، وإذا جمعت بين الرِّوَايَاتِ حَصَلَتْ في المسْأَلة أربعةُ أقْوَالٍ، فظاهرُ المَذْهَب منها الجديدُ، وَيلِيهِ في الظُّهُورِ مِنْ رواياتِ القَدِيمِ بالبُطْلاَن.

الثالثةُ: إذا قال: جَعَلْتُهَا لك عُمْرَكَ، فإذا مُتَّ، عادَتْ إِلَيَّ، أو إِلى ورثتي، إن مُتُّ، فإنْ حكمنا بالبُطْلاَن في صورة الإطْلاق، فههنا أولَى. وإن قُلْنا بالصحة والعود إلى المعمر، فكذلك ههنا وليْسَ فيه إلاَّ التَّصْرِيحُ بمقتضى الإطْلاق.

وإن قُلْنا بالجديد، وهو الصَّحةُ والتأبيدُ فوجهان:

أحدُهما: البُطْلاَن؛ لأنَّه شرط ما يخالِفُ مقْتَضَى المِلْك فإن من مَلَكَ شيئاً، صار بَعْدَ مَوْتِهِ لورَثَتِهِ.

والثاني: يَصِحُّ ويلْغُو الشَّرْطُ، فإنَّه لم يشترط عَلَى المُعْمِر شَيْئاً، ولا قَطَع ملْكُه عليه، إنَّما شَرَطَ العَوْدَ عليه بعد الموت، وحينئذ قد صار المِلْكُ للورثة.

والوَجْهُ الأول أَسْبَقُ إلى الفهم، وقد رجَّحه القاضِي ابْنُ كجٍّ وصاحبُ "التتمة" لكنَّ للأكثرين أجابُوا بالثَّاني، وسوَّوْا بيْن هذه الحالَةِ وحالةِ الإطلاق، كأنَّهُمْ أخَذُوا


(١) رواه مسلم في صحيحه دون قوله من بعدك.
(٢) تقدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>