للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: المنع؛ لأنه مباح الدمِ، فصار كالمرتدِّ، وربما بُنِيَ الخلافُ على أن الحدَّ لله تعالى، أو للمسلمينَ، والإمامُ نائب عنهم في الاستيفاء.

إن قلنا: لله تعالى، فإذا قتله غير المستحِقَّ ونائِبِه، لزمه القصاصُ، كما لو قَتَل مَنْ عليه القصاصُ غيرُ المستحِقِّ ونائِبِه، وإن قلْنا: للمسلمين، فقد قتله أحد المستحِقِّين، فلا قصاص، والظاهر من الوجهَيْنِ على ما اختاره الإِمام، ورواه عن المراوزة ورآه صاحب "التهذيب": أنه لا يجب القصاصُ، ويُعزَى ذلك (١) إلى النص، وفي فتاوى القَفَّال: أن مَنْ ترك الصلاة عمْداً حتى خرج وقْتُها، وكان يُؤْمر بفعلها، فلا يفعَلُها، فلو قتله إنسان فلا قصاص عليه، وليكن هذا جواباً عَلَى وجْهِ المنعِ في الزاني المُحْصَن.

قال: فلو جُنَّ قبل فعْلِها لا يُقْتَل في حال الجنون، فلو قتله قاتلٌ حينئذ، وَجَب عليه القصاص، وكذا لو سَكِر، ولو جُنَّ المرتدُّ أو سَكِرَ، فقتله قاتل، فلا قِصاص لقيام الكُفْر.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: القَاتِلُ وَشَرْطُهُ أنْ يَكُونَ مُلْتَزِمَاً لِلأَحْكَامِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ وَالحَربْيِّ، وَيجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَفِي السَّكْرَانِ خِلاَفٌ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يجب القصاصَ على الصبيِّ والمجنونِ؛ لأن القَلَم مرفوعٌ عنهما، كما لا قِصَاص على النائم، إذا انقلب على إنسان؛ فقتله، ولأنهما لا يُكلَّفان بالعبادات الدينية، فأوْلَى أن لا يؤاخذا بالعقوبات البَدَنيَّة، والمنقطع جنونُه كالعاقل في وقْتِ إفاقته، وكالمُطْبِق جنونه في وقْت جنونه، ومَنْ وجب عليه القصاص، ثم جُنَّ، استوفى منه القصاص، سواءٌ ثبت موجب القصاص بإقراره أو بالبَيِّنة، بخلافِ ما إذا أَقرَّ بما يُوجِبُ الحدَّ ثم جُنَّ حيث لا يُسْتَوفى منه الحَدُّ في جنونه؛ لأن الإقرار هناك يقْبَل الرُّجُوع.

وعن أبي حنيفة: أنه لا يقتص، منه في الجنون، وعن بعض أصحابه: أنه إن جُنَّ حين قَدِمَ للقصاص، اقتص منه، وإن جُنَّ قبله، لم يقتص منه، وفي وجوب القِصَاص على السكران طُرقٌ مختلفةٌ، على ما مرت في "الطلاق"، والظاهِرُ وجوبُه وألْحَق به المتعدِّي بتناول الأدوية المزيلة للعقل.

ولو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيراً، وقال الوارث: كنت بالغاً، فالمصدَّق باليمين القاتل؛ لأن الأصل بقاءُ الصَّغَر، ولا يخفى أن هذا بشَرْط الإمكان، ولو قال: أنا صغير، فلا قصاص، ولا يُمْكن تحليفه؛ لأن التحليف لإثبات المحلوف عليه، ولو ثبَتَ صباه، لبطلت يمينه، ولو قال: كنت مجنوناً عند القتل، وكان قَدْ عُهِدَ له جنونٌ،


(١) قال النووي: قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: الخلاف إذا قتل قبل أن يأمر الإِمام بقتله، فإن قتل بعد أمر الإِمام بقتله، فلا قصاص قطعاً. والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>