للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسلِمينَ مُصَابرةَ ضِعْفَهم من الكُفَّارِ دُونَ ما زاد، فقال عَزَّ وجلَّ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: ٦٦]. قال ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- "مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاثةٍ لَمْ يَفِرّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَرَّ" (١) يعني الفِرَارَ المحرمَ، وهل يجوزُ أن يَفِرَّ مائةٌ من الأبْطَالِ من مِائَتَيْنِ وواحدٍ من ضُعَفَاءِ الكُفَّارِ؟ فيه وجهان:

أَصَحُّهمَا: على ما ذكر صاحبُ الكتاب: المنعُ؛ لأنَّهم يُقَاوِمُونَهم لو ثَبَتُوا، وإنَّمَا يُرَاعَى العددُ عند تَقَارُبِ الأَوْصَافِ.

والثَّانِي: أَن اتباعَ الأَوْصَافِ يعسر، فيُدَارُ الحكمُ على العددِ، ويجري هذا الخلافُ في عَكْسِه، وهو فِرارُ مِائَةٍ منْ ضُعَفاءِ المُسْلِمينَ مِنْ مِائَةٍ وتِسْعَةٍ وتِسْعِينَ مِنْ أَبْطال الكُفَّار، فإن رَاعَيْنا صورةَ العدَدِ لم يَجُزْ، وإنْ راعينا المعنى -فيجوزُ، وإذا جاز الفِرارُ نظِرَ. إنْ غلب على ظَنَّهم أَنَّهم لو ثبتوا ظَفِرُوا، فالمستحبُّ لهم الثباتُ، وإنْ غَلَبَ على ظنهم الهلاكُ لو ثبتوا فهل يلزمهم الفَرارُ، فيه وجهان:

أَحَدُهما: نَعَمْ: لقولِه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥].

والثَّانِي: لاَ؛ لما رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً. قال: يا رسولَ الله أرأَيْتَ لو انْغَمَسْتُ في المشْرِكينَ فقاتلتُهم حتى قْتِلتُ ألِي الجنة؟ قال: نَعَمْ، فانغمسَ الرَّجُلُ في صَف المشركِينَ، فقاتل حتى قُتِلَ (٢).

وذكر الامامُ أَنَّهُ إن كان في الثبات الهلاكُ المحْضُ من غير نِكَايَةٍ في الكُفَّارِ لَزِمَ الفِرَارُ، وإن كان في الثباتِ نِكايةٌ فِيهم، فَفِي جَوَازِ المُصَابرةِ الوجهان (٣).

فرعٌ:

لَقِيَ مُسْلِمٌ مُشْرِكَيْنِ، فإنْ طلباه، فله أَنْ يُوَلِّي عنهما؛ لأنَّهُ غيرُ متأهِّبٍ للقتالِ، وإِنْ طلبهما ولم يطلباه، فوجهان:


(١) أخرجه الشَّافعي والحاكم عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس. ورواه الطبراني من رواية الحسن بن صالح عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً.
(٢) أخرجه الحاكم [٢/ ٩٣] من حديث ثابت عن أنس: أن رجلاً أسود أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-, الحديث نحوه، ولم يذكر الانغماس، وفي الصحيحين عن جابر قال قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل، وروى ابن إسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما التقى الناس يوم بدر، قال عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يضحك الرب تعالى من عبده؟ قال: أن يراه غمس يده في القتال: يقاتل حاسرًا، فنزع عوف ذرعه، ثم تقدم، فقاتل حتى قتل.
(٣) قال النووي: هذا الذي قاله الإِمام هو الحق، وأصح الوجهين، أنه لا يجب، لكن يستحب.

<<  <  ج: ص:  >  >>