للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتمكن من القتالِ، وحينئذٍ يَنْحَصِرُ الاستثناءُ فيهما.

فأمَّا مَنْ عجز لمرضٍ، أَوْ لم يَبْقَ معه سِلاحٌ -فَلَهُ أن ينصرفَ بِكُلِّ حال، ويستحب أن يولي مُتَحرِّفًا أو مُتَحَيِّزًا، وإِنْ أَمْكنه الرميُ بالحجارة، فهل يقومُ (١) مقامَ السلاح؟ ذكر فيه وجهان:

ولو مات فرسُه وهو لا يَقْدِرُ على القِتال رَاجِلاً -فله الانصرافُ أيضاً، وإنْ غلب على ظَنِّهِ أَنَّهُ إن ثبت قُتِلَ هل له الانصرافُ؟ فيه وجهان:

أَحَدُهما: نَعَنم، لظاهر قولِه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ٩٥].

وأَصَحُّهُمَا: لاَ؛ لقولِه تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: ٤٥] والغزاةُ يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وقد فُسِّرت التهلكةُ بالفِرَارِ من الزِّحْفِ، والمتحيِّز إلى الفِئَةِ البعيدةِ لا يُشَارِكُ الغَانِمِينَ في الغَنِيمَةِ، إن فارق قبل الاغتنام وإنْ غنِمَ شيءٌ دون شيء -لم يبطل حَقُّه مما غَنِمَ قبل مُفَارقَتِه، ولا شيْءَ فِيما غنم بَعْدَها، هكذا نُقِلَ عن نَصِّ الشافعِيُّ -رضي الله عنه -، وبمثله أجاب في المتحرّفِ للقتالِ، ومنهم مَنْ أطلق القولَ بأنَّ المتحرِّفَ يُشَارِكُ في الغَنِيمة، ولَعَلَّ هذا فِيمَا إذا لم يبعد ولم يَغِبْ، والنَّصُّ فيما إذا تَحَرَّفَ للقتالِ، ثُمَّ انقَطَع عن القَوْمِ قبل أَن يَغْنَمُوا أَنَّهُ لا يُشَارِكُهم، وهل يُشارِكُ المتحيِّز إلى الفِئَةِ القريبةِ الغانِمينَ في المغنُومِ بعد ما وَلَّى؟ ذكر صاحبُ الكتاب فيه وَجْهَيْنِ:

أَشْبَههُمَا: الاستحقاقُ؛ لأنَّهُ لا يفوّت نصرته، والاستنجادُ به، فهو كالسريَّةِ يشاركُ جُنْدَ الإمامِ فيما يغنمون إذا كانت بالقُرْب مِنْهم.

وإذا عَرَفْتَ ذلك، ونظرت في قول صاحب الكتاب في "قَسْم الفَيْءِ والغنائِم فمَنْ غَابَ فِي آخِرِ الْقِتَالِ: إنْ كَانَ بِانْهِزَامٍ، سَقَطَ حَقُّهُ، إِلاَّ إذا قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى" -عرفْتَ أنَّ هذه اللقطةَ إِنَّما تجري على ظاهِرِهَا إذا جعلنا التَّحَيُّزَ إِلَى الفِئَةِ القريبة كالتَّحَيُّزِ إلى الفئَةِ البعِيدَةِ، فإنْ فَرَّقنَا بينهما حملنا اللفظَ على الفِئَةِ البَعِيدَةِ، وأَنَّ حقَّ المتحيِّزِ إِنَّمَا لا يسقط عن المغنومِ قبل مُفَارقته، أمَّا المغنومُ بعده فلا حَقَّ فيه، وإِنَّمَا يُسْقِطُ الانهزامُ الحقَّ إذا اتفق قبل القِسْمة، أمَّا إذا غنموا شَيْئاً واقتسمُوه ثُمَّ انهزم بعضُهم لم يُسْتَردّ منه ما أخذ.

الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذا زاد عددُ الكُفَّارِ على الضِّعْفِ جاز الانهزامُ، وكان يجبُ في ابتداءِ الإسْلامِ أن يثبت الواحِد في مُقَابلة العشْرَةِ، ثُمَّ خَفَّفَ اللهُ تعالى ذلك فأَوْجب على


(١) قال النووي: أصحهما: تقوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>