الثانية: هلِ الفَاسِقُ أهل للالتقاط؟
عن القَفَّالِ تخريجُه على الأصْلِ المذكُور، إنْ رَجَّحنَا الأمانة والوِلاية، فلا، وما يأخُذُه حكمه حُكْمُ المغْصُوب، وإن رجَّحنا الاكتسابَ، فَنَعَمْ، وهذه الطريقةُ هِيَ التي أفردها في الكتاب، وقطعَ عامَّةُ الأصحاب بأهْليَّته، وهو الذي يدُلُّ عليه نَظْمُ "المُخْتَصر"، ويُخَرَّج عليه ما حكَيْناه عَنِ المعْظَمِ أنَّهُ يُكْرَهُ له الالتقاطُ، وعلى هذا؛ فهل يُقَرُّ المالُ في يده، إذا التقط؟ فيه قولان:
أصحُّهُمَا: وهو اختيار المُزَنِيِّ: لا، بل ينتزع مِنْ يَده، ويوضَع عنْد عَدْلٍ؛ لأنَّ مال أولاده لا يقرُّ في يدِه، فكَيْف يَقرُّ مال الأجانب؟
والثاني: نعَمْ؛ لأنَّ له حَقَّ التَّمَلُّك، ولكنْ يُضَمُّ إليه عَدْلٌ يُشْرِفُ عليه، وعن أبي الحُسَيْنِ بْنِ القَطَّانِ وَجْهٌ آخَرُ: أنَّه لا يُضَمُّ إلَيْه أحدٌ عَلى هذا القولِ، وعند أبي حنيفةَ وأحْمَدَ: لا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ، ولا يُضَمُّ إليْه أَحَدٌ.
وسواءٌ قلْنا: أنَّهُ ينتزع من يده، أَوْ يُضَمُّ إِلَيْه مُشْرِفٌ، ففي التَّعْرِيفِ قولان:
أَشْبَهُهُمَا: وهو ظاهرُ نَصَّهِ في "المختصَر" أنَّه لا يعْتَمَدُ في التَّعْرِيفِ؛ لأنَّهُ رُبَّما لا يَخُونُ فيه، حتى لا يَظْهَر المالِكُ، بل يُضَمُّ إلَيه نظرُ العَدْلِ ومراقبتُه.
والثاني: أنَّه يَكتَفِي بتَعْرِيفهِ، فإنَّه المُلْتَقِطُ، وهذا روايةُ الربيع، ثم إذا تمَّ التعريفُ، فللملْتَقِطِ التَّمَلُّكُ.
وقولُه في الكتاب: "وفي أهليَّة الفَاسِقِ، والعَبْدِ والصَّبِيِّ قولان" يجوز أن يُعَلَمَ لفظُ القولَيْنِ بالواو؛ للطريقة القاطعة بأهليَّة الفَاسِقِ، وهي جاريةٌ في الصبيِّ أيضاً، ولا تَجْرِي في العبْد باتِّفاق الأصحاب.
وقولُه: "ولعل الأصحَّ أنَّهم يتملّكُون" فيه تمثيلْ [الكتاب]، لكنَّكَ قدْ عرَفْتَ أنَّه ظاهر المَذْهَب في الفَاسِق بلا تمثيل وكذا القوْلُ في الصَّبِيِّ، ثم إنَّه استأْنَسَ لذلك بالأخْبَارِ الواردَةِ في اللُّقَطَةِ، فإنَّها مُطْلَقَةٌ، لا تُفرِّق بين هؤلاء وغَيْرهم.
وقوله: "إمَّا أنْ يُنْتَزَعَ مِنْ يدِ الفَاسِقِ، أو يُنَصِّبَ علَيْهِ رَقيباً" -ليس تخييراً، وإنَّما هو إشارةٌ إلَى ما قدَّمناه منْ القولَيْن، والكِنَايةُ في قولهِ كما تراه لا يَنْصَرفُ إلَى أَحَدِ الأمرَيْن، بل الوَجْهُ صَرُفها إلى الرَّقِيبِ، والمعْنَى: يُنَصِّبَ رقيبًا يختارُهُ ويستصوبه.
ويجوزُ إعْلاَمُ: قوله "يَنْتَزعَ ويُنَصِّبَ" بالحاء والألف؛ لما ذكرنا منْ مَذْهَب أبي حنيفةَ وأحمدَ.
وقولُه: "إلَى أنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ" -إشارةٌ إلَى أنَّه يُخَلِّى بينه وبين اللُّقَطَةِ بعْدَهَا ليتملكها، [واللهُ أَعْلَمُ].