للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): لَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَلَيْسَتْ قَاذِفَةً لأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِف بِزِنَا نَفْسِهَا* وَإِنْ قَالَتْ: زنَيْتُ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَقَاذفَةٌ وَمُقِرَّةٌ* وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا* وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: زَنَى فُلاَنٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُ* أَوْ فِي النَّاسِ زُنَاةً وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ* فَإنْ كَانَ ثَبَتَ زِنَا فُلاَنٍ بِالبَيِّنَةِ وَالقَاذِفُ جَاهِلٌ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ قَاذِفٍ* وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ قَاذِفٌ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: يا زانية، فقالت: أنْتَ أزْنَى مني، أو بل أنت أزْنَى مني، فلا تكون قاذفةً له إلا أن تُريدَ القَذْف؛ لاحتمال أن تريد أنه أهْدَى إلَى الزنا، وأحْرَص عليه منْها، فإن جَرَى ذلك بين الزوجَيْن، فيحتمل أن تريد: أنه لا يطأني غيرك، فإن كنْتُ زانيةً، فأنْتَ أزْنَى مني.

نعم، لو قالت: زنَيْتُ، وأنت أزنى مني، أو قالت ابتداءً: أنا زانيةٌ، وأنت أزْنَى مني، فهي قاذفة له، ومقرة بالزنا على نفسها، ويسقط حد القَذْف عن الرَّجُل، فإن خطر بالبال أن "كلمة المبالغة" تقتضي الاشتراك في الأَصْل وإثبات الزيادة، فليكن قولها "أنْتَ أزنَى مني" قذفًا وإن لم تَقل: زنيت، وقد اعتذروا عنه بوجهَيْن:

أحدهما: أنَّ معْظَم الناس في محاوراتهم لا يحافظون على منْهَاج الاسْتِقَامة، وإنما يراعيه نفَرٌ يَسيرٌ هم الموفقون في كل عصر، فلا يمكن قصْر النَّظر على الموضع الأصليِّ، بل ينظر إلى معتاد المحاورات.

والثاني: أن ألفاظ المبالغة في مَعْرضِ الذمِّ والمشاتمة تُحْمَل على وَضْع اللسان، كما في قوله تعالى؛ حكايته عن يوسُفَ -عليه السلام- حيث قال لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: ٧٧] ولو قالت ابتداءً: أَنْتَ أزْنَى مني، ففي كونه قذفًا وجهان، حكاهما القاضي ابن كج -رحمة الله عليه-، ويجوز أن يفرق بين الجواب والابتداء، كما سبق في قولها: زنَيْتُ بكَ، ولو قالت في الجواب: زَنَيْتُ وأنْتَ أزنَى مني، فتكون مقرةً بزناها، وقاذفةً له، ولو قال لغَيْره: أنتِ أزْنَى الناس أو أزنى من الناس أو يا أزنى النَّاس، لم يكن قاذفاً إلا أن يريده (١)، وكذا لو قال [أنْتِ] (٢) أزْنَى من فلان، خلافاً


(١) قال الإِمام: لم أر فيه خلافاً، وقد استبعد الشيخ عز الدين قول الشَّافعي إنه لا يكون قاذفًا حتى يقول أنت أزنى زناة الناس من جهة أن المجاز هاهنا قد غلب على هذا اللفظ فقال: فلان أشجع الناس وأسخى الناس، وأعلم الناس يفهمون من هذا اللفظ أنه أشجع شجعان الناس وأعلم علماء الناس، والتعبير الذي وجب الحد لأجله حاصله هذا اللفظ فوق حصوله بقوله أنت زان يعني لأنه نسبه إلى المبالغة في الزيادة، وقال بعضهم: إنما منع الشَّافعي أعمال المجاز الراجح هنا لأنه عنده مساوٍ لمقتضى اللفظ فهو كالحمل فلذلك سقط الحد وهو يسقط بأدنى من ذلك.
(٢) سقط في ز. =

<<  <  ج: ص:  >  >>