قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ذكرنا [في] أن الأم أوْلَى من الأب قَبْل أن يميز الولد، وأنه يُخَيَّر بينهما بعْد تمييزه، هو فيما إذا كان الأبوان مقيمَيْن في بلَدٍ واحدٍ، فأما إذا أراد أحدُهُما أن يُسافِر، [أو أرادا سفراً]، وكان يختلف بلَدُهُما، نُظِر؛ إن كان السفر لحاجةٍ؛ كحجٍّ [وغزوٍ] وتجارةٍ، فلا يسافر بالوَلَدِ؛ لِمَا في السفر من الخطر والضرر، بل يكون مع المقيم إلى أن يَعُود المسافر، ولا فَرْق بين أن تَطُول مدَّة السَّفَر أو تقصر، وعن الشيخ أبي محمَّدٍ وجْه: أن للأب أن يسافر به، إذا كان تَطُول مدَّة سَفَره (١)، وإن كان السفَرُ سَفَر نُقْلةٍ، فيُنْظَر؛ إن كان ينتقل إلى مسافة القَصْر، فللأب أن ينتزعه من الأم، ويستصحبه مع نفسه، سواءٌ كان المنتقل الأب أو الأم أو ينتقل أحدهما إلى بَلَد، والآخر إلى بلدٍ آخر، والمعنى فيه الاحتياط لنسبه؛ فإن النَّسَبَ يتحفظ بالآباء دون الأمهات وإذا طالتِ المفارقةُ بيْنه وبين الولد، لم يُؤْمَن اندراس نسبه وخفاؤه، فيتضرَّر به الوالد، وأيضاً، فإن مصْلَحَة التأديب والتعليم وسهولة الإنفاق علَيْه والقيام بمؤناته، تقتضي ذلك.
نعْم، لو رافقته الأمُّ في الطريق والمقصد، دام حقُّها, ولو عاد مِنْ سَفَر النُّقلة إلى بلدها، عاد حقها، وإن كان الطريق الذي يَسْلكه مخُوفاً، والبلد الذي يقْصِده غَيْرَ مأمون؛ لغارة ونحوها, لم يكُنْ له انتزاع الوَلَدِ واستصحابُه، وساعَدَنا مالك وأحمد [على] أن للأب أنْ ينتزعَ الوَلَد وينقله، ولا فَرْق بين أن يكون قَدْ نَكَحَها في بلَدِها، أو في بلدِ الغربة، وعن أبي حنيفة: أنه إن [كان] نكَحَها في بَلَدِ الغربة، فكذلك، وإن نكحها في بَلَدِها، فالأُمُّ أحق به، ويُرْوَى عنه أنه إذا كانَتِ الأمُّ تنتقلُ، والأب مقيماً، فهو أحقُّ به، إلا إذا كانَتْ تنتقل من بلدة إلى قرية، وإن كان الانتقال إلى ما دون مسافةِ القَصْر، فوجهان:
أحدهما: أنه لا يؤثر، ويكونان كالمقيمَيْنِ في محلتين من بلدة واحدة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، والقاضي المَاوَرْدِيُّ، وهو الذي أورده في "التهذيب".
(١) ما أطلقه من الحكاية عن الشيخ أبي محمد في طول السير تابع فيه الغزالي لكن الصواب في حكايته عنه تقييد الطول بما إذا طال على حد يظهر أثره ولا ضرورة لمطلق الطول. هذا حكاه عنه الإِمام في النهاية.