الإِمام وجهاً: أنه يجب على القَوْل بوجوب الضَّمَان؛ لأنا إذا أوجبنا الضَّمان، ألحقنا تارك السباحة الذي يُحْسِنها بمَنْ لا يحسن السباحة في الضمان، فكذلك في القصاص.
الثالثة: لو ألقاه في نارٍ لا يمكنه التخلُّص منها إما لعظمها أو لكونها في بئر أو وهْدَةٍ، أو لكونه مكتوفاً أو زَمِناً أو صغيراً، فمات فيها أو خرج منْها متأثراً متألماً، وبقي ضَمَناً إلى أن مات، فعليه القِصاصُ، وإن أمْكَنَه التخلُّص والخروج منْها، فلم يفعل حتى هَلَك، ففي الدية قولان منسوبان إلى رواية الرَّبيع، والأصحُّ منهما على ما ذكره القاضيان الطبريُّ والرويانيُّ وصاحب "التهذيب" وغيرهم -رحمهم الله-: المنع، كما سبق في مسألة الماء، وإذا لم نوجب الدية بتمامها، وجب ضمان ما يتأثر بالنار بأول الملاَقَاة إلى تقصيره وتقاعُدِه عن الخروج من أرش عضْوٍ أو حكومةٍ لا محالة، وأما القِصَاصُ، فالمشهور أنه (١) لا يَجِبُ كما ذكرنا في الماء، وفيه وجهٌ حكاه القاضي ابن كج عن أبي الحُسَيْن وجماعةٍ عن القفَّال، ومن تابعه: أنه يجب، وإن لم يجب في مسألة الماء، وفرَّقوا بأن النار تُؤثِّر، وتقرح بأول المس، والقُرُوح الحاصلةُ بها جراحات قاتلة، بخلاف ملاقاة الماء، ولذلك يَرُدُّ الإنسانُ الماءَ اختيارًا، ولا يرد النار، وبأن لفح النار يورث دهشة وحيرة تمنع من الخروج، بخلاف الوقوع في الماء القَليلِ، وهذا ما أجاب به أبو الحسن العباديُّ في "الرقم" وادعى أن بعض البغدادية من الأصْحَاب، نَقَل هذا الجواب إلى "مسألة الماء"، فأوجب فيه القِصَاص، والجواب المعروف في "مسألة الماء" إلى هذه فمنعه وجعلهما على قولَيْن، والجمهور على التسوية بيْن الصورتين، وإلَيْه ذهب القاضي الحُسَيْن ومنع الإِمام قال: ولو كانَتِ النارُ بحَيْث تُؤثِّر بأوَّل المس، ويمنع من الخروج، فليست الصورة كالصورة التي يتكلم فيها، وقد يُتصوَّر الإلقاءُ في النار؛ بحيث لا يَتأثَّر البدَنُ في أول الأمر؛ لكثافة الملبوس وغيرها والله أعلم، وأما لفظ الكتاب وترتيب المسائل فاعلم أنه أدرج المسائلَ الثلاثَ في جملةٍ واحدةٍ، فقال:"إذا تسبب إلى ما أفضى إلى هلاك الغير، وتَمَكَّن المقصودُ من الإتيان بما يتوقَّع [منه] دفْعَه، فلم يفعل" فله ثلاث مراتب:
إحداها: أن يكون السبب ما يُقصَد به الهلاكُ غالباً، ولم يكن طريقُ الدفع موثوقاً به كترك معالجة الجُرْح، فيجب القصاص.
(١) قال الشيخ البلقيني: جمع في هذا الكلام بين أمرين لا يجتمعان على اصطلاحه فإنه قال: لا تجب الدية على الأظهر، وإذا انتفت الدية على الأظهر انتفى القصاص فكيف جعل الخلاف في القصاص وجهين وقد نص الشَّافعي على انتفاء الدية، ونص على انتفاء القود فكان المستقيم في العبارة أن يقول: فلا قصاص على المنصوص المعروف أو على المشهور إن ثبت عنده قولان في القصاص ولا دية على الأظهر.