الضمان على ما ذكَرْنَا، وإن لم يوجد منهما تقصيرٌ، وحصل الاصطدام بغلبة الرياحِ، وهَيَجان الأمواج، فهل يجب الضمانُ؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، كالفارسَيْنِ، إذا غلبت دابَّتُهما.
وأصحُّهما: لا؛ لأنهما مغلوبانِ، لا اختيارَ لهما، فأشبه ما إذا حصل الهلاكُ بصاعقةٍ من السماء، وليستْ غلبةُ الرياح كغلبةِ الدابَّة، فإن ضبط الدابة باللِّجام ممكنٌ، والبحر المغتلم لا طاقة به، وفي محلِّ القولَيْن طريقانِ، خصَّصهما مخصِّصون بما إذا لم يوجد من المجرِيَيْنِ فعلٌ أصلاً؛ بأن كانت السفينةُ مربوطةً على الشَّطِّ أو مرسَاةً في موضع، وَهاجت ريحٌ، وسيَّرتهما، فأما إذا سيَّراهما، ثم غلبَتِ الريحُ، وعجزا، وجَب الضمانُ؛ لأن ابتداء السير كان بفعلهما واختيارهما، وطردهما أبو إسحاق والإِصطخريُّ وآخرون في الحالتين، وهو الأظهر.
التفريع: إن قلنا: يجبُ الضمان، فهو كما لو فرَّطا، ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالأصحِّ، فلا يجبْ ضمانُ الأحرار، ولا ضمانُ الودائعِ والأماناتِ فيهما، وكذا لا يجبُ ضمانُ الأموالِ المحْمُولة بالأجرة، إن كان مالكُها معَهَا، وكذا لو كان عبدُ المالِكِ معَها يحْفَظُها، وإن استقلَ المجرِيَانِ باليد، فعلى الخلافِ في أنَّ يد الأجير المشتَرَكِ، هلْ هي يدُ ضمان، وإن كان فيهما عبيدٌ، فإن كانوا أعواناً أو حفَّاظاً للمالِ، لم يجبْ ضمانهم، وإلاَّ فهم كسائر الأموالِ، وعلى هذا القوْلِ، لو اختلف صاحبُ المالِ والملاَّحان؛ فقال صاحبُ المال: كان الاصطدامُ بفعلِكُمَا، وقالا: بل بغَلَبة الرِّيَاح، فالقول قولُهما، مع يمينهما؛ لأنَّ الأصل براءةُ ذمَّتهما، ومهما كان أحدُ الملاَّحَيْن عامداً دون الآخر، أو مفرِّطاً دون الآخر، خصَّ كلَّ واحد منهما بالحُكْم الذي يقتضيه حالُهُ عَلَى ما تبيَّن، ولو صدَمَتِ السفينةُ المربوطةُ على الشطِّ سفينةً، فكسرتها، فالضمانُ على مجرى السفينةِ الصَّادمة [والله أعلم].
وقوله في الكتاب:"فالمَلاَّح كالرَّاكب ... " إلى آخره (١)، ينطبقُ عَلَى ما إذا كانت السفينتانِ وما فيهما للملاَّحَيْن، ويجوز أن يُعْلَم قوله:"وغلبة الرياحِ كغَلَبة الدَّابَّة" بالواو؛ لأنَّ في غلبة الرياح قولَيْن منصوصَيْن، وفي غلبة الدابَّة طريقان:
أحدهما: أنها على قولَيْن أيضاً.
والثاني: القطْعُ بوجوب الضمان، وعلَى هذا فلا يكونُ غلبة الرياح كغلبة الدابة.
وقوله:"ولو كان في كلِّ سفينةٍ أنفُسٍ ... " إلى آخره، المرادُ ما إذا حملا في