للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد روي عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْه- امْرَأَتَيْنِ من "هُذَيْلِ" اقْتَتَلَتَا، فقتلت إحداهما الأُخْرَى، ولكل واحدة منهما زَوْجٌ وَوَلَدٌ، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةِ المَقْتُولِ على عاقلة القاتلة، وبَرَّأَ الزوج والولد، ثم ماتت القَاتِلَةُ، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهَا لبنيها، والعَقْلَ على العَصَبَةِ (١). وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك: يَتَحَمَّلُ الآباء والبنون كَسَائِرِ العَصَبَاتِ.

ثم في الفصل صورتان:

إحداهما: إذا قَتَلَت امْرَأَةٌ، لها ابْنٌ هو ابن عمها، هل يَتَحَمَّلُ العَقْلَ؟ فيه وجهان:

أحدهما -ويحكى عن الشيخ أبي عَلِيٍّ-: نعم، ولا تجعل البُنُوَّةَ مَانِعَةً، كما لا تجعلُ مُوجِبَةً لِلتَّحَمّلِ، وهذا كما أنَّه يلي أَمْرَ نكاحها.

وأظهرهما: لا، والبَعْضِيَّةُ مَانِعَةٌ من التحمل؛ لأن مَالَ أَبْعَاضِهِ كَمَالِهِ، ألا ترى أن نَفَقَتَهُ تَجِبُ في مَالِ أَبْعَاضِهِ، كما تجب في مَالِهِ، وكما لا يُؤْخَذُ من ماله لا يُؤْخَذُ من أموالهم. وأيضاً فقد روي أن رَجُلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابنه، فقال: "مَنْ هَذَا"؟ قال: ابني، قال: "أَمَا إِنَّهُ لا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلاَ تَجْنِي عَلَيْهِ" (٢).

وليس المراد نَفْيَ الجِنَايَةَ، وإنما المعنى أنَّه لا يَلْزَمُكَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ، ولا يلزمه مُوجِبُ جِنَايَتِكَ، فَدَلَّ أن البُنُوَّةَ مَانِعَةٌ.

الثانية: يراعى الترتيب في العَصَبَاتِ، فيقدم الأَقْرَبُ فالأَقْرَبُ، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ، حيث قال يفض الواجب على القريب والبعيد بالسَّوِيَّةِ.

لنا أن تَحَمُّلَ العَقْل حكم من أحكام العُصُوبَةِ، فَتُقَدَّمُ دِيَةُ الأقرب على الأبْعَدِ، كما في الميراث وولاية (٣) التَّزْوِيجِ.


(١) رواه الشَّافعي والشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة دون الزيادة، ورواه أبو داود بلفظ: ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ميراثها لبنيها، وأن العقل على عصبتها، ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث جابر وفيه: ولكل واحدة منهما زوج وولد، نحوه، وفي إسناده مجالد، وصححه النووي في الروضة بهذا اللفظ، وفيه ما فيه؛ لأن مجالداً ضعيف لا يحتج بما ينفرد به، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن نضلة عن المغيرة قال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عاقلتها بالدية وغرة في الحمل.
(٢) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من رواية أبي رمثة نحوه، وأحمد أيضاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة، من حديث عمرو بن الأحوص أنَّه شهد حجة الوداع مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني جان على ولده، وأحمد وابن ماجة وابن حبان من رواية الخشخاش العبري نحو حديث أبي رمثة، ولأحمد والنسائي معناه من رواية ثعلبة بن زهدم، والنسائي وابن ماجة وابن حبان من رواية طارق المحاربي، ولابن ماجة من رواية أسامة بن شريك.
(٣) في ز: وولائه.

<<  <  ج: ص:  >  >>