للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَالَ: ذكر اسم الله أو صفة من صفاته لا يكونُ قَيْدًا في حقيقة اليمين؛ ألا ترى أنه يُقَالُ: حلَفْتُ باللهِ، وحلَفْتُ بغير الله، وفي الخَبَرِ "لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائكُمْ" (١).

وقوله في الكتاب على الأثر "فتجب الكفَّارة" إلى آخره يُشْعر بأن المقصودَ ضبطُ اليمين التي تتعلق بها الكفَّارة لا حقيقة مجرَّد اليمين.

ثم تتعلق بالضبط المذكور صورٌ يشتمل الفصْلُ عليها:

إحداها: تنعقد اليمينُ على الماضي، كما تنعقد على المستقبل، فإن كان كاذبًا، وهو عالم بالحال، فهي اليمين الغموس، سُمِّيت به لأنها تَغْمِس صاحِبُها في الإِثم أو في النار، وهي من الكبائر؛ رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتلُ النَّفسِ، وَالْيَمِينُ الغَمُوسُ" (٢) وتجبُ الكفارةُ بها، وتعلُّق الإِثم لا يمنع وجوبَ الكفَّارة، كما أن الظِّهَارَ منْكَرٌ من القول وزور، ويتعلَّق به الكفَّارة، وإن كان جاهلاً، ففي وجوب الكفارةِ قولان، كما لو فعل المحلوف عليه ناسياً، وقال أبو حنيفة ومالكٌ وأحمدُ -رحمهم الله-: لا يجب الكفَّارة باليمين الغَمُوس.

لنا: قولهُ تعالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] الآيةَ تعم الماضي والمستقبل؛ لأن لفظ اليمين يقع عليها؛ ألا تَرَى أن الحُكَّامَ يحلفون على الماضي أبداً، وقال -صلى الله عليه وسلم- "واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" (٣) وأيْضاً، فإنَّه حَلِفٌ باللهِ تعالى، وهو مختار، لكنه كاذبٌ، فصار كما لو حلف على المستقبل.

الثانية: من سبق لسانه إلى كلمة اليمينِ بلا قصدٍ؛ كقوله في حالة غضبٍ، أو احتداد لَجَاج أو عجلةٍ أو صلَةِ كَلاَم: لا والله، وبلى والله، لم ينعقدْ يمينهُ، ولم تتعلَّق به الكفَّارة؛ لقوله تعالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} رُوِيَ عن عائشةَ -رضي


(١) رواه أبو داود [٣٢٤٨] والنسائي [٧/ ٥] وابن حبان [١١٧٦] والبيهقي، من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه. من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله، الحديث.
(٢) رواه البخاري [٦٦٧٥ - ٦٨٧٠ - ٦٩٢٠] من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بهذا، ورواه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن أنيس الجهني بلفظ: من أكبر الكبائر، ولم يذكر قتل النفس، وزاد: ما حلف حالف بالله يمين صبر، فأحل منها مثل جناح البعوضة، إلا جعلها الله في قلبه كية يوم القيامة.
(٣) رواه البيهقي [١٠/ ٢٥٢] من حديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو أعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال، دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهو في الصحيحين البخاري [٢٦٦٨، مسلم ١٧١١] بلفظ ولكن اليمين على المدعى عليه، وسيأتي في الدعاوى.

<<  <  ج: ص:  >  >>