إحداها: إِذا ازدَحَمَ جماعةٌ من المدَّعِينَ، نُظِرَ، إن جاءوا على التعاقب، وعرف الترتيب قدم منهم الأسبق فالأسبق والاعتبار بسبق المدَّعِي دون المدَّعَى عليه، وإن جاءوا معًا أقرع، وإن لم يعرف الترتيب، وقدم من خرجت قرعته، وإن كثروا وعَسُر الإِقراع كُتِبَ أسماؤهم في رقاع وصبت بين يَدَي القاضي؛ ليأخذها واحدةً بعد واحدةٍ، ويسمع دعوَى مَن خرج اسمُه في كل مرَّةٍ، ويستحب للقاضي أن يرتب ثقة يثبت أسماء الحاضرين يوم قضائه، ليعرف الترتيب معهم، ولو قدم الأسبقُ غيره على نفْسِهِ جاز، والمفتِي والمدرِّسُ عند الازْدِحَام يقدَّمان أيضًا بالسبق أو بالقرعة، نعم، لو كان الْفَنُّ الذي يعْلَمُه خارجًا عن فروض الكفايات، فالاختيار إليه في تقديم من شاء، ولا يقدم بَعْضَ المدَّعين بشرف غيره إلا في موضعين:
أحدهما: إذا كان المدعون مسافرين مستوفزين، وهم الذين شَدُّوا الرحال؛ ليخرجوا، ولو أخر أمرهم لتخَلَّفُوا عن رفقائهم، فإن قلُّوا، قدموا؛ لئلا يتضرَّر بالتخلف، وإن كثروا لمساواة المسافرين أهل البلد أو زيادتهم بالحجيج بمكة، لم يقدموا، وكانوا كالمقيمين، فيراعي السبق والقرعة، وفي "المهذَّب" وغيره وجْهٌ آخر أنه لا يقدم بالسفر أصلاً.
والثاني: لو كان في الحاضرين نسوةٌ، ورأى القاضي تقديمهن، لينصرفْنَ قدمهن، وفيه وجه آخر أنهن لا يقدمن، ولكن التقديم فيما إذا لم يكثرن، كما في المسافِرِين، وما ينبغي أن يفرق بين أن يكون المسافر مدعيًا أو مدعى عليه، والظاهر أن تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحَقٍّ، وإنما هو نوع رخصة يجوز الأخذ به، وبذلك يشعر لفظ المختصر، ويوافقه قوله في الكتاب "إن رأى فيه مصلحة" ومنهم من يشعر إيراده بالاستحقاق، ثم لا يخفى أن السفر والأنوثة إنما يقتضيان التقديم على المقيمن وعلى الرجال، فأما المسافرون بعْضُهم مع بعض (١) والنسوة بعضهم مع بعض، فالرجوع فيهم إلى السبق والقرعة.
(١) قال الأذرعي: لا يبعد أن يقال يجوز تقديم المسافر الذي شد رحله وخاف الضرر والانقطاع عن الرفقة على المسافر الذي ليس كذلك بل هو مقيم اليوم واليومين أو لا يخشى التخلف عن الرفقة أو لا يتضرر به لكثرة الرفاق وأمن الطريق وقرب مقصده وأن يقدم المسافر لضرورة أو حاجة معتبرة على المسافر لنزهة وبطالة.