للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرابعة: إنشاءُ الشِّعْر في الجملة وإنشادُهُ والاستماعُ إِلَيْه جائزٌ، كيف لا، وكان للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- شعراءُ يَصْغِي إِلَيْهمْ، حَسَّان بْنُ ثابتٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رضي الله عنهما- واستنشد الشريد شعر أمية بنِ أبي الصَّلْت، واستمع إليه، وفي حفْظ دواوين العَرَب أبلغُ معونةٍ عَلَى دَرْك أحكام الكتاب والسنّة ومعانيهما، وقال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "الشِّعْرُ كَلاَمٌ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِهِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبيحِهِ" وفضله على الكلام أنَّه سائرٌ، وإنْ هجا الشاعِرُ في شعْرِه بما هو صادقٌ فيه أو كاذبٌ رُدَّتْ شَهَادَتُه؛ لذلك قال القاضي الرويانيُّ: وليس إثمُ حاكِي الهَجُو كإِثْمِ مَنْشِئِهِ (١)، ويُشْبِه أن يكون التعريضُ هجْواً كالتصْريح، وقد يزيد بعض التعْريض على التصريح، وقال القاضي ابن كج: لا يكونُ التعريضُ هجواً (٢)، وكذلك تُرَدُّ شهادة الشاعِرِ، إذا كان يفحش أو يشبِّب بامرأةٍ بعَيْنها لِمَا فيه من الإِيذاء والإِشهار والقَذْف إنْ صَرَّح، وإن كان صادِقاً في أنَّه فعل كذا، فلفِسْقه بما أخْبَر عنه أيضاً، وكذا تُرَدُّ شهادَتُه، لو كان يصف الأعضاء الباطنة؛ لما فيه من هَتْك السِّتر، فإن كانَتِ التي شَبَّب بها جارَيتَهُ، أو زوجَتَه، فمن الأصحاب من قال بأنه يجُوز، ولا تُرَدُّ شهادَتُه، وهذا القائل يقول: لو لم تكن المرأةُ معينةً لا تردُّ شهادته لجواز أن يريدَ من تحِلُّ له، ومنهم من قال: تُردُّ شهادتُهُ إذا كان يذْكُر جاريته أو زوجته بما حقُّه الإِخفاء؛ لأنه ساقِطُ المروءة، وهذا هو الحقُّ، عَلَى ما سيأتي في "فصْل المروءةِ" ولو كان يشبِّب بغلامٍ، ويذْكُر أنه يعْشَقُه، قال القاضي الرويانيُّ يفسق، وإن لم يعين؛ لأن النظَر بالشَّهْوة إلى المذكور حرامٌ بكل حال، وفي "التهذيب" وغيره: اعتبارُ التعْيِين في الغُلام، كما في المرأة، وإذا كان يمْدَحُ الناسَ، ويُطْرِي نُظِر؛ إن أمكن حمْلُه على ضَرْب مِبالغةٍ، فهو جائز، ألاَ تَرَى أن رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَمَّا مُعَاوَيةُ، فَصُعْلُوكٌ؛ لاَ مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ (٣) ومعلومٌ أنه كان يضَعُ كثيراً، وإن لم يكُنْ حملُه على المبالغَةِ، وكان كذباً محْضاً، فهل هو كسائر أنواع الكَذِبِ، قال عامة الأصحاب -رحمهم الله- وهو ظاهر كلامِ الشافعيِّ -رضي الله عنه-: نعم، حتَّى إذا أكثر منه، رُدَّتْ شهادته، كما إذا أكثر الكَذِبَ في غَيْر الشِّعْر،


(١) نعم لو كان المهجو معروفاً. قال الأذرعي: فيظهر أن إثم الحاكي أعظم من إثم المنشئ إذا كان قد سمعه منه سراً فأذاعه وهتك به ستر المهجو.
(٢) ومحل تحريم الهجاء إذا كان لمسلم، فإن كان لكافر أي غير معصوم جاز كما صرح به الروياني وغيره لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر حساناً بهجاء الكفار ومن هنا صرح الشيخ أبو حامد بأنه مندوب ومثله في جواز الهجو المبتدع كما ذكره الغزالي في الإِحياء والفاسق المعلن كما قاله العمراني وبحثه الأسنوي وظاهر كلامهم جواز هجو الكافر المعين وعليه فيفارق عدم جواز لعنه بأن اللعن الإِبعاد من الخير ولاعنه لا يتحقق بعد منه فقد يختم له بخير بخلاف الهجو.
(٣) تقدم في النكاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>