للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شهادةُ العدُوِّ تهمَة، والعصبيةُ: نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وتقبل شهادةُ العدُوِّ لعدوه إذ لا تهمةَ، والعصبيةُ: هو أن يَبْغَضَ الرجل؛ لأنه من بَنِي فلان إنِ انضم إليها دعوةُ الناس وتألُّفهم للإضْرار به، والوقيعةِ فيه، فيقتضي ردَّ شهادته عليه، ومجرَّدها لا يقتضيه، ولَيْسَ من العصَبية أن يُحبُّ الرجُلُ قومه وعمرته، فيقبل شهادته لهم وعليهم، ويقبل شهادة الصَّديق للصديق، كما يقبل للأخِ والعمِّ وغيْرِ الاْصول والفروع، وقال مالكٌ: لا تُقْبَلُ شهادةُ الصديقِ للصَّديقِ، وكذا شهادةُ الأخِ للأخِ، إذا كان منقطعاً إلَيْه بصلةٍ وَيبُّرُهُ.

قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةَ المُبْتَدِعَةِ إِذِ الصَّحِيحُ أنَّهُمْ لاَ يُكَفِّرُونِ، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَطْعَنُ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ وَيَقْذِفُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لأنَّها مُحْصَنَةٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: جلُّ الفقهاء من أصحابنا وغير أصحابنا يَمْتَنِعُونَ من تكفير أهل القبلة، نعم اشتهر عن الشافعيِّ -رضي الله عنه- تكفيرُ الَّذِينَ ينْقُونَ علْمَ الله تعالَى بالمعدوم، ويقولون: لم يعلَمْ إلا الأشياء حتَّى يَخْلُقَها، وَرَوَى العراقيُّون عنه تكفير النافين للرُّؤْيَة، والقائلين بخَلْق القرآن، وأولَّه الإِمام -رحمه الله- وقال: ظنّي أنه نَاظَر بعْضَهم، فألزمه الكُفْر في الحِجَاجِ، فقيل: إنه كَفَّره فيمَنْ (١) يكفر، ولا تُقْبَلُ شهادته، ومن لا يُكَفَّر من أهل البدَع وإهواء، نصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "الأم والمختصر" علَى قبول شهادتهم، إلا شهادةَ قَوْم يَرَوْنَ الكَذِبَ كفراً، ويشهد أحدُهُم لصاحبه، إذا سمعه يقول: لي على فلانٍ أو عنْده كَذَا، فيصدقه بيمينٍ أو بغَيْر يمينٍ، ويشهد له اعتماداً عَلَى أنه لا يكذب وهؤلاء يُسَمَّوْنَ الخَطَّابِيَّةَ، والأصحابُ فيه عَلَى ثلاثةِ فِرَقٍ، ففرقةٌ جرَتْ على نصِّه في الكتابَيْن، وقبلت شهادةَ جَمِيعهم، وهم الأكثرون، منهم ابن القاصِّ، وابن أبي هريرة، والقفَّال، والقضاةُ ابن كج، وأبو الطيِّب، والرويانيّ -رحمهم الله- ووجَّهوه بأنَّ هؤلاء مُصِيبُون في زعْمهم، ولم يظْهَر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وفيهم طوائفُ يشدِّدون أمر الكذب، فيتأكد الظَّنُّ بصدقهم، وإلى هذا أشار الشافعيُّ -رضي الله عنه- بقوله: وشهادةُ من يَرَى كِذَبْه شِرْكاً بالله ومعصيةً يَجِبُ بها


(١) قال النووي: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفي الرؤية أو قال بخلق القرآن، فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في "الأم" ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الإِمام حسن، وقد تأوله الإِمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الإِخراج من الملة، وتحتم الخلود في النار. وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم لم يلحقوهم بالكفار في الإِرث والأنكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>