للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي لا يحفظُ ولا يَضْبِطُ؛ لأنه لا يُوثَقُ بقوله، فإن شهد مُفَسِّرًا وبَيَّن وقْتَ التحمّل ومكَانَهُ، فزالَتِ الريبةُ عن شهادته، قُبِلَت، ولا تُقْبَلُ أيضاً شهادةُ منْ يَكْثُرُ غَلَطُهُ ونِسْيَانُهُ، وأما الغلَطُ القليل، فإنَّه لا يقْدَحُ في الشَّهَادة؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يَسْلَمُ منه، قال الإمامُ -رحمه الله- ومُعْظَمُ شهادات العَوامِّ ويشوبها جهلٌ وغرَّةٌ، فيحوج إلى اسْتفصاله، كمَا مرَّ في "أدب القضاء".

قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: دَفْعُ عَارِ الكَذِبِ: فَمَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ: بِفِسْقِ فَتَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُة إِلاَّ إِذَا أَعَادَ تِلْكَ الشَّهادَةِ لأَنَّهِ يَدْفَعُ بِذَلِكَ عَارَ الْكَذَبِ، وَتُقْبَل الشَّهَادَة المُعَادَةُ مِنَ الْعَبْدَ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إِذَا زَالَ نُقْصَانُهُم، وَهَلْ تُقْبَلُ الْمُعَادَةُ مِنَّ الْفَاسِقِ المُعْلِنِ وَالْعَدُوِّ والسَيِّدِ إِذَا شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ فِيْهِ وَجْهَانِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب التهْمَةِ: أن يدفع بالشهادَةِ عَارَ الكَذِب عَنْ نفسه، فإذا شهد فاسقٌ، فرد القاضِي شهادَتَه، ثم تاب، كما سنَصِفُ التوْبَةَ، فشهَاداتُهُ مقبولةٌ بعد ذلك، لكن لو أعاد تلْكَ الشَّهادة، لَمْ يُقْبَلُ، خلافاً للمزُنِّي، ولو شهد عبد أو كافرٌ أو صبيٌ، فلم يعتدَّ بشهادتهم ثم عَتَقَ العَبْدُ وأسْلَم الكافرُ وبلغ الصبيُّ، فأعادوا شهاداتِهِم، قُبِلَتْ، خلافاً لِمَالكٍ وأحْمَدَ -رحمهما الله- والفرق من وجهين:

أحدُهُما: أنَّ العدالَةَ والفسْقَ يدْرَكَانِ بالنَّظَر والاجتهادِ، والظاهرُ من حال المِسْلم العدالةُ، لكنَّ القاضِيَ بعْد البَحْث قد يؤدِّي اجتهادُهِ إِلَى فِسْق الشاهد، فيحكم بردِّها، وما حكم بردِّه لا يحكم بقوله؛ كعقدٍ أبطله لَيْس له أن يصحِّحه، والعبْدُ والصبيُّ والكافرُ ليس لهم أهليَّة الشهادَةِ، وما أتَوْا به لَيْسَ بشهادةٍ حتى يُقْبَلَ أو يُرَدَّ، ولو علم القاضي حالَهُم، لم يَصْغَ إَلى كلامهم، وهذا الفَرْقُ هو الذي أشار إليه الشافعيُّ -رضي الله عنه-.

والثاني: قال الأصحاب: العَبْدُ والكافر والصبىُّ لا يتعيَّر بردِّ الشهادة، أما العَبْدُ والصبيُّ، فليس إلَيْها نُقْصَانهُما، وأما الكافِرُ، فلا يعتقد كُفْره نقْصاً بل يفتخر به، ولا يبالي بردِّ شهادته، لتمسُّكه بدينه، والفاسقُ يتعيَّر بالردِّ؛ لأن الردَّ يُظْهِرُ فسْقَه الذي يسعَى في إخفائه ويعرف بأنه نقص، ولأنَّه متهمٌ بالكذب والمجازفة، إذا رُدَّت شهادته، فإذا أعاد تلْكَ الشهادة، فقد يريدُ دفْعَ غضاضةِ الكَذِب، أو يَرَى أنه كان القاضِي مخْطِئاً في ظن الفسْق به فلمَّا تبيَّن له خلافُه، قيل شهادته، وقد يتوهَّم أنه على فسْقه، لكن أظهر التوْبَة ليعيد الشهادةَ، ويدْفَع العَارَ ومثْلُ هذا لا ينقدحُ في بلوغ الصبي وما في معناه، فإن كان الفاسقُ مُعْلِناً بالفسْقِ حين شهد، ففي قَبُول شهادته المعادةِ بعْد التوبة وجْهَان، والأئمةُ إلَى أنَّها لا تقْبَل أيضاً أميلُ، واختاره القاضي الرُّوَيانيُّ، ويُنْسَبُ إلَى ابْن أبي هْرَيْرة، واختيارُ القاضي أبي الطيِّب القبولُ، ويُنْسَبُ إلَى أبي إسحاق، والوجهانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>