إن قلنا: تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بعد الحكم، فهو مُسْتَحَبٌّ.
وإن قلنا: لا تُسْمَعُ فواجب، كيلا يُفَوِّتَ بالحُكْمِ عليه الدَّعْوَى وبالتحليف، ألا يحصل العيب عُذْراً مَانِعاً من الفَوَاتِ.
ولو قال المُدَّعَى عليه: إن الشهود فَسَقَةٌ، أو كَذَبَةٌ، وزَعَمَ أن الخَصْمَ عَالِمٌ بذلك، فهل له تَحْلِيفُهُ على أنه لا يعلم؟
فيه وجهان:
أحدهما: نعم , لأنه لو أَقَرَّ به لَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
والثاني: لا، ويكتفى بِظَاهِرِ العَدَالَةِ، وتَعْدِيلِ المزكين، وطرد هذا الخلاف في كُلِّ صورة ادّعى ما لو أَقَرَّ به الخَصْمُ لنفعه لكن لم يكن المدعى عين حَقّ له؛ كما لو قال المُدَّعَى عليه في الجواب: إنه أَقَرَّ لي بما يَدَّعِيهِ، وكما إذا ادَّعَى على إنسان، إنك أَقْرَرْتَ لي بكذا، وما إذا تَوَجّهت اليمين عليه، فقال: إن المُدَّعِي قد حلفني مرة، وأراد تَحْلِيفَهُ، وفيما إذا قذف إِنْسَاناً، فَأُرِيدَ منه الحَدُّ، وادَّعَى أن المقذوف زَنَا، وأراد تَحْلِيفَهُ، ففي وجه -لا يُسْمَعُ شَيْءٌ من ذلك، ولا يمكَّن من التَّحْلِيفِ، ويُشْبِهُ أن يكون الأظهر الثاني- ليصدق الخَصْم، فينتفع به، أو ينكل فَيَحْلِفُ، ويؤيده ما مر من قَوْلِ الأَصْحَاب: إن دَعْوَى الإقْرَارِ بالمجهول صَحِيحَةٌ، وإن جواب الأكثر في مَسْألَةِ القَذْفِ، أنه يحلفَ المَقْذُوف علىَ أنه لم يَزْنِ، وإن كان المقذوف مَيِّتاً، وأراد القَاذِفُ تَحْلِيفَ الوَارِثِ على أنه لا يَعْلَمُ زنا مورثه. فكذلك يحلف، وهذه الصورة تُحْكَى عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- لكن ذكره صاحب "التهذيب" فيما إذا ادَّعى فِسْقَ الشهود، أو كَذِبَهُمْ، أن الأَصَحَّ أنه لا يحلف المُدَّعِي.
وأما تحليف القَاضِي والشاهد، فلا يجوز، وإن كان ينفع تَكْذِيبُهُمَا أنفسهما؛ لما مَرَّ أن مَنْصِبَهُمَا يَأْبَى التحليف؛ وقد يُقَالُ: الضبط الذي ذَكَرُوهُ لِصِوَرِ الوجهين، يقتضي اطِّرَادَهُمَا فيما إذا ادَّعَى الأَدَاء؛ لأنه ليس الأَدَاءُ في نفسه حَقّاً، ولكن ينفعه في انْدِفَاعِ المُدَّعى عنه. والله أعلم.