أصلهم، واعتمدوه في تكوين الكواكب، وانشاء الحيوانات والنباتات. فذهب "ديمقراطيس"(١) إلى أن العالم أجمع، سواء كان من الأرضيات، أو من السماويات، مؤلف من أجزاء صغار صلبة متحركة بالطبع، ومن تلك الحركة الطبيعية التي هي لها، ظهرت أشكال الأجسام وهيآتها بقضاء العماية المطلقة، يعني بالصدفة التي لا تعلم حقيقتها، فأدتهم سخافة عقلهم إلى تجويز الترجيح بلا مرجح الذي لا يسلم به العقل السليم، ويعده مستحيلًا.
وذهب فريق آخر: إلى أن العلويات والسفليات من الأجرام السماوية، والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه من الأزل، ولا تزال على هذه الهيئة، فلا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات، وزعم هؤلاء أن في كل بذرة نباتًا مندمجًا فيها، وفي كل نبات بذرة كامنة، ثم في هذه البذرة الكامنة نبات فيه بذرة، وهكذا إلى غير النهاية، وأداهم مسلكهم هذا إلى القول بأن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانًا تام التركيب، وفي كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى، وهكذا يذهب كذلك إلى غير النهاية، كما في النباتات، وفات هؤلاء: أن قولهم هذا أداهم إلى القول بوجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، وهذا مما ينادي العقل السليم بأنه من المحالات الأولية التي لا يمكن إنكار كونها محالًا.
وذهب فريق ثالث، إلى أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية، والبذور النباتية بقديم، بل كل جرثومة وبذرة بمنزلة قالب يتكون فيه ما يشاكله من جرثومة وبذرة أخرى، ولم يفطن هؤلاء إلى أن قولهم هذا، أداهم إلى ما يبطل مذهبهم من أصله، وهو أن كثيرًا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، وأن كثيرًا من الحيوان التام الخلقة قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.
ثم جاء "أبيقور" المتوفى سنة مئتين وسبعين قبل ميلاد المسيح، فمال هو وأتباعه إلى الإبهام في البيان، وقالوا:
(١) ديمقراطيس فيلسوف يوناني مات في القرن الخامس قبل الميلاد.