الحي من الأجزاء حيًا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال، إلى غير ذلك من المزاعم التي لا يقبلها العقل، ولا يقدر منتحلوها على تأييدها بالبرهان، كقول من قال: إن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس، وما درى ذلك القائل بأنه هو وأشياعه يقولون: بأن الأرض كانت يومئذٍ جذوة نار ملتهبة، فكيف هذه النيران المستعرة لم تحرق تلك الجراثيم، ولم تمح صورها.
هذا وما زال الرأي المادي ينمو تارة، ويخبو ناره تارة، وتنقلب عليه آراء جماعة "كداروين" وغيره. وهو في الحقيقة لا ينسب إلى رأي معلوم، ولا إلى مذهب خاص، لاختلاف آراء جماعته وناصريه إلى أن صار الرأي المادي اليوم: أن المادة وحدها ليست هي التي تفعل الأفاعيل، وليست هي المتكلفة بالتركيب والتحليل، وأنها فوق كل شيء، بل إنما أفاعيلها بانضمام القوة والإدراك إليها، حيث قال: وهذه الفلسفة لا تقتضي لقضاياها العصمة المطلقة، ولا تستنزل من سوابح الأفكار في ذرى سماء الخيال نواميس الكون، بل بالضد من ذلك، تقف عند حد أبحاث العلوم الصحيحة، وهذا الحد غير ثابت، بل يزداد بعدًا سنة عن سنة كلما تقدمت هذه العلوم، وقد يقع الخطأ فيها أكثر من مرة، إلا أن هذا الخطأ لا يضر، بل يفيد لاكتشاف الحقيقة على حد المثل القائل: لا ينتقل من الخطأ إلى الصواب إلا العاقل، ولا يقف إلا المجنون، انتهى.
وقد استهزأ الطبيب المظفر بن معرف (١) بهذه الطائفة فقال:
وقالوا: الطبيعة مبدأ الكون ... فيا ليت شعري ما هي الطبيعة؟
أقادرة طبعت نفسها ... على ذاك أم ليست بالمستطيعة؟
وقال أيضًا:
(١) هو مظفر بن عبد الرحمن البعلبكي، طبيب، كان أبوه قاضيًا ببعلبك فنسب إليها. نشأ وتعلم بدمشق، وخدم في بيمارستان الرقة، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة جميع الأطباء والكحالين والجراحين سنة ٦٣٧ هـ، وتوفي بدمشق سنة ٦٧٥.