يحرصون على مطلقها، على أي صفة كانت، وهم قاطعون بأنه لا يخلو يوم منها عن كدر، فإنهم يعلمون أن الحياة وإن كانت في غاية الكدر خير لهم مما بعد الموت {و} أحرص {من الذين أشركوا} بالله تعالى سواء كان الذين أشركوا من عبدة الشمس أو الكواكب أو النور والظلمة، أو كانوا يعملون عمل الشرك.
وفي هذا الكلام توبيخ عظيم لليهود، لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنَّها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب، وهو مقر بالجزاء، كان حقيقًا بأعظم التوبيخ، ومن وصل إلى هذه الدرجة من الحرص على الحياة ونسيان يوم الجزاء، كان سبيله سبيل أولئك اليهود الذين ذمهم تعالى في كتابه العزيز، وكان وجوده داعيًا إلى اختلال نظام العمران، وذلك أن المرء متى اشتد حرصه على الحياة اشتد حرصه على الاستئثار بالغلبة، والتفوق على أقرانه واتساع نطاق معيشته، فيدأب على استحصال الأسباب التي توصله لذلك، فإذا انضم إلى هذا نسيان الآخرة، وسلك مسلك من لا يعلم أن له معاقبًا يعاقبه على ما يفعل، استرسل في الظلم والتعدي، وسلب الناس حقوقهم وسعى في الأرض فسادًا، ولم يصغ لناصح، ولم يتأمل وعظ واعظ، وأعماه الكبر والتيه عن الحق، واقتدى به غيره، وفشى هذا الخلق إلى أن يصير كالملكة الراسخة في النفس، فيتغلب حينئذ القوي على الضعيف, وترجع الرابطة الدينية إلى الانحلال فيختل نظام العمران، وتستعد الأمة إلى أن تصير محكومة من غيرها مغلوبة على أمرها، كما حصل ذلك لبني إسرائيل، وكما جرى ذلك لغيرهم من الأمم الذين أخلدوا إلى الترف والنعيم، وتنافسوا في التفوق والغلبة، فأصبحوا فرقًا وشيعًا، ونشأ من بعدهم على مثل حالتهم، فانقرضت العصبية من بينهم، وآل أمرهم إلى الانحلال.
ولما بين تعالى شدة حرصهم على الحياة، بين مقدار ما يتمنونه، فقال:{يود} مأخوذ من الود، وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له. {أحدهم} أي: واحد منهم، فهو يتناول كل واحد منهم على سبيل البدل، فكأن المعنى: أنك إذ انظرت إلى حرص واحد منهم، وشدة تعلق قلبه بطول الحياة، وجدته {يود}{لو يعمر ألف سنة}.