الوجهين، وصل بذلك إحاطة البحر بالأرض، وتخلل البحار فيها لتوصل المنافع المحمولة في الفلك، مما يوصل من منافع المشرق للمغرب، ومنافع الشمال للجنوب، وبالعكس، فما حملت جارية شيئًا ينتفع به إلا قد تضمنه مبهم كلمة "ما" في قوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} ثم إن المفسرين يجعلون {فِي} في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} للاستعلاء، وهذا أحد معانيها، وحمل أهل البيان على ذلك قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه: ٧١] وجعلوه من باب الاستعارة التبعية؛ والكونيون يجعلون مثل هذا للاستعلاء الحقيقي؛ ولكن الزمان جعلها للظرفية المكانية، وللاستعلاء أيضًا، على قول من يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وذلك أن السفن التي تجري في البحر صارت في زمننا قسمين:
أحدهما: يجري على وجه البحر مستعليًا عليه، وهو الأكثر.
والثاني: ما يجري في جوف البحر وهي الغواصات التي تغوص في البحر.
وكلا القسمين يجري بما ينفع الناس، وكيفية الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى أن السفن وإن كانت من تركيب الناس، إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن، وسخر الرياح لإجراء بعضها، وعلم الناس استخدام البخار، وما يكون مسببًا له لإجراء البعض الآخر، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك.
وأيضًا: فإنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض والعالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل، فصار ذلك داعيًا يدعوهم إلى اقتحام هذه الأخطار في هذه الأسفار، ولولا أنه تعالى خصَّ كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه، لما ركبوا هذه السفن، فالحامل ينتفع به لأنه يربح، والمحمول إليه ينتفع بما يحمل إليه، فيكون ذلك توسيعًا للعمران، وتعميمًا للمعارف والعلوم.
وأيضًا: تسخير الله تعالى البحر لحمل الفلك، مع قوة سلطان البحر إذا هاج، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح، فاضطربت أمواجه، وتقلبت مياهه.