وأسند (الجري) إلى {الْفُلْكِ}، ومن المعلوم أنها لا جري لها حقيقة، ولا فعل بوجه من الوجوه، ترقية إلى اعتقاد مثل ذلك في النجوم، إشارة إلى أنه لا فعل ولا تدبير، كما يعتقد ذلك بعض الفلاسفة الماضين؛ واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر أيضًا، كالمدرعات التي تكون للحرب ونحوها، لأنه ذكرها في معرض الامتنان؛ وذكر تعالى {النَّاسَ} في هذه الآية، لأنهم أول من يقع به الاجتماع والتعاون، والتبصر بوجه ما، وأدنى ذلك في منافع الدنيا، الذي هو شاهد هذا القول.
ولما ذكر نفع البحر بالسفن، ذكر من نفعه ما هو أهم من ذلك، فقال:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ}: أي جهتها باجتذاب السحاب له.
ولما كان النازل منها على أنواع، وكان السياق للاستعطاف إلى رفع الخلاف، ذكر ما هو سبب الحياة، فقال:{مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ}.
ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت، نفى الجار فقال:{بَعْدَ مَوْتِهَا}.
ولما ذكر حياة الأرض بالماء، أشار إلى أن حياة كل ذي روح به [فقال](١): {وَبَثَّ} أي: فرق آحادًا مستكثرة، في جهات مختلفة {فِيهَا} بالخصب {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} من الدبيب، وهو الحركة بالنفس، فكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره، وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر، جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها كأنه دفين فيها، وهي له قبر.
وفي هذه الآية أنواع من الدلائل على وجوده تعالى:
منها: أن تلك الأجسام، وما قام بها من الرقة والرطوبة واللطافة والعذوبة، لا يقدر أحد على خلقها إلا الله.