للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقرر فخر الدين الرازي في تفسيره، بطلان التقليد بوجه عقلي، فقال: يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان، أن يعلم كونه محقًا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقًا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل (١)، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده، أن يعلم كونه محقًا، فإذن قد جوزت تقليده، وإن كان مبطلًا؟ ! فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل؟

وأيضًا هب أن ذلك المتقدم الذي قلدته كان عالمًا بذلك الشيء، إلا أنّا لو قدرنا أن ذلك المتقدم، ما كان عالمًا بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبًا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر؛ فكذا ههنا.

وأيضًا إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا تقليد؟ فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور (٢)، وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفًا له! ! فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلًا.

وما قاله هنا، الدليل يعم المقلد في التوحيد، والمقلد في الفروع، وقد جعل العلماء للمقلد في الفروع ميزانًا عادلًا، فاتفقوا على أن المكلف متى عرف الحق، لا يجوز له تقليد أحد في خلافه (٣).


(١) التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية.
(٢) الدَّوْر: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه كلما يتوقف (أ) على (ب) و (ب) على (أ).
(٣) هذا عند العلماء الذين عندهم علم وإنصاف ومسكة من عقل واتباع، وأما متعصبة المقلدة فالأمر عندهم على التزام المذهب في كل حال، وإذا وجدت آية من كتاب الله، والحديث الصحيح على خلاف المذهب! أوجب تأويل الآية والحديث، أو تكون الآية منسوخة، والحديث غير صحيح! ! والبعض الآخر يسلم نظريًا، ويرفض عمليًا.

<<  <   >  >>