قال الرافعي: الأمر الثالث: فالمعسر لا زكاة عليه، وكل من لم يفضل عن قوته، وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه ما يخرجه في الفطرة فَهُوَ مُعْسِرٌ، وَمَنْ فَضُلَ عَنْهُ ما يُخرِجُهُ فِي الفطرة من أي جنس كان من المال فهو مُوسِر، ولم يُصَرِّح الشافعي -رضي الله عنه- وأكثر الأصحاب في ضبط اليسار والإِعْسَار إِلاَّ بهذا القدر، وزاد الإمام فاعتبر في اليسار أن يكون قَدْرُ الصَّاعِ فاضلاً عن مَسْكَنِه، وعبده الذي يَحْتَاج إليه في خِدْمته، وقال: لا يحسب عليه في هذا الباب ما لا يحسب في الكَفَّارة، وتابعهُ المصنف فِيمَا ذَكرَهُ، وأنت إذا فحصت عن كُتُبِ الأَصْحَاب وجدت أَكْثَرَهُمْ سَاكِتين عَنْ ذَلِك، وقد يغلب على ظَنِّك أَنَّهُ لا خِلاَف في الْمسْألة، وَالَّذِي ذكره كالبيان والاسْتِدرَاك لِمَا أهْمَلَهُ الأَوَّلُونَ، وَرُبَّمَا استشهدت عليه بأنهم لم يتعرضوا أيضاً لدست ثوب يلبسه، ولا شَكَّ في أنه مبقى عليه، فإن الفِطْرة ليست بأَشَد من الدَّيْنِ، وأنه مبقى عليه في الدّيون، لكن الخلاف ثابت، فإن الشَّيْخ أَبَا عَلِيّ حكى وجهاً أن عبد الخِدْمَة لا يُبَاعُ فِي الفِطْرَة، كما لاَ يُبَاعُ فِي الكَفَّارَةِ، ثم أنكر عليه، وقال: لا يشترط في صَدَقَةِ الفِطْرِ أن يكون فَاضِلاً عن كفايته، بل المعتبر قوت يومه، ويفارق الكَفَّارة؛ لأن لها بدلاً ينتقل إليه، فخفف الأمر فيها، ولا بدل للفطرة فمتى قدر عليه بوجه ما، لزمه القضاء كقضاء الدَّيْنِ، وذكر في "التهذيب" أيضاً ما يوجب إثبات وجهين في المَسْألة، والأصَحُّ عِنْدَهُ الأَوَّلُ كما في الكتاب، وقد احتج له بقول الشافعي -رضي الله عنه- أن الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته فعلى الأب أن يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ، كما يخرج فِطْرَة الابن، ولولا أن العبد غير مَحْسُوب لسقط بِسَبَبِه نَفَقَةُ الابْنِ أيضاً، ثم ذكر الإمام -رحمه الله- شيئين:
أحدهما: أن كَوْنَ المُخْرَجِ فاضلاً عن العَبْدِ والمَسْكَنِ، وإن شرطناه في ابتداء الثبوت، فلا نشترطه في الدَّوَام، بل إذا ثَبَتَتْ الفِطْرَة في ذِمَّةِ إِنْسَانٍ بِعْنَا عَبْدَهُ وَمَسْكَنَهُ فيها؛ لأنها بَعْدَ الثُّبُوتِ التَحَقَتْ بِالدُّيُونِ.
والثاني: أن ديون الآدميين تَمْنَع وجوبَ الفِطْرَة وِفَاقاً؛ كما أن الحاجَة إلى صَرْفِهِ إِلَى نفقةِ الأقَارِب تَمْنَعُهُ، قال: ولو ظَنَّ ظان أن دين الآدمي لاَ يَمْنَعه على قَوْلٍ، كما لا يمنع وُجوب الزَّكاة كان مُبْعَداً، هذا لَفْظُهُ وفيه شيءٌ آخر نذكره في أواخر صَدَقه الفِطْرِ -إن شاء الله تَعَالى جَدُّه-. فعلى هذا يُشْتَرَطُ مع كون المُخْرَج فَاضِلاً عما سبق كَوْنُه فاضلاً عن قدر ما عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، ولم يتعرض له في الكِتَاَب، بل ليتعرض لِمَا اتفقت الكلمة على اعتباره وهو كَوْنُه فَاضِلاً عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ يَمُونُه إِلاَّ أن يقال: إنه تعرض له على سبيل الإشَارة، فإنه إذا اعتبر كَوْنه فَاضِلاً عن العبد والمَسْكَن، فأولى أن يَكُونَ فَاضِلاً عنه. وقولَه:(صاع من الطَّعَام) لا يخفى أنه غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وإنما المراد قدر صاع من أي جنس كان من المال.