للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله-، وهو الأَصَحُّ عند القاضي الطَّبري فيما حكى القاضي الرَّوَياني. وأصحهما: عند الجمهور: أنه لا يتخير، وكلمة (أو) محمولة على بيان الأنواع، كما في قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} (١) فإنه ليس للتخير، وإنما هو لبيان أنواع العقوبة المختلفة بحسب اختلاف الجريمة، وعلى هذا فوجهان:

أصحهما -وبه. قال ابن سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاق-: أن المعتبر غالب قوت البلد، فإن كان بالحجاز أَخْرَج التمر، وإن كان ببلاد العراق، أو خراسان فالحنطة، وإن كان بطبرستان أو جيلان فالأرز، ووجهه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اغْنُوهُم عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ" (٢) ولو صرف إليه غير القوت الغالب لما كان مغني عن الطَّلَبِ، فإنَ الظاهر أنه يطَلب القوت الغالب في البلد، وبهذا قال مالك.

والوجه الثاني: وبه قال أَبُو عُبَيْد بنُ حَرْبَوَيْهِ: أن المعتبر قوته على الخُصُوصِ، كما أن في الزكاة يعتبر نوع ماله لا الغالب. قال ابْنُ عَبْدَان: وهذا هو الصَّحِيح عِنْدِي.

ويتعلق بهذا الاختلاف فروع: أحدها: إذا تَعَيَّن جنس إما لكونه غَالِبَ قُوتِ البلد، أو لكونه غَالِبَ قُوتِه، فليس المراد منه أنه لا يجوز العُدول عنه بحال، بل المراد أنه لا يجوز العُدُول عنه إلى ما هو أدنى منه، أما لو عدل إلى الأَعْلَى فَهُوَ جَائِز بالاتفاق. فإن قيل: إذا عيّنا جنساً فَهَلاً امتنع العدول إلى غيره، وإن كان أعلا: كما أن الفِضَّة إِذَا تعينت في الزكاة امتنع العدولُ إلى الذَّهَب، وكذلك يمتنع العدولُ من الغَنَمِ إلى الإبِلِ، فيجوز أن يقال في الجواب: الزَّكَوَات الَمالِيَّةُ مُتَعَلِّقَة بالمال فأمر بأنه واسى الفقير مما واساه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البَدَنِ، وبه قوامه والأقوات متشاركة في هذا الغَرَضِ، وتعيين شيء منها رفق وترفيه، فإذا عدل إلى الأعلى كاْن في غَرَضِ هَذِهِ الزَّكاة كما لو أخرج كرَائِمَ ماشيته.

وفيما يعتبر به الأدنى ولأعلى؟ وجهان:

أحدهما: أن النظر إلى القيمة [لأن] (٣) ما كان أكثر قيمة، كان أرفق بالمَسَاكين وأشق على المالك، وبهذا قَالَ أحمد فيما حكاه القَاضِي الرّويَاني.

وأظهرهما: أن النظر إلى زيادة صَلاَحية الاقتيات فعلى الأول يختلف الحالُ باخْتِلاَف البِلاَدِ وَالأَوْقَاتِ إلا أن يعتبر زِيادة القيمة في الأكثر، وعلى الثَّاني البرُّ خَيْرٌ مِنَ التَّمْرِ والأرز، ورجح في "التهذيب" الشَّعِير أيضاً على التَّمْرِ، وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ -


(١) سورة المائدة، الآية ٣٣.
(٢) تقدم.
(٣) في ط لأنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>