للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن الإفراد والتمتع؛ لأن أفعال النُّسُكَيْنِ فيهما أكمل منها في القرآن.

وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: القرآن أَفْضَلُ مِنْهُمَا، ويحكى ذلك عن اختيار المُزَنِيّ، وابْنِ المُنْذِرِ، وأَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِي؛ لما روى عن عائشة قالت: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْرُخُ بِهِمَا صُرَاخاً، يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ" (١).

لكن هذه الرواية معارضة بروايات أخر راجحة على ما سيأتي.

واختلف قوله في الإفراد والتمتع أيهما أفضل؟ قال في اختلاف الحديث: التمتع أفضل، وبه قال أحمد، وأبو حنيفة -رحمهما الله-؛ لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوِ اسْتَقبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدى وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" (٢).

والاستدلال أنه -صلى الله عليه وسلم- تمنى تقديم العمرة، ولولا أنه أفضل لما تَمَنَّاه.

وقال في عامة كتبه: الإفراد أفضل، وهو الأصح، وبه قال مالك؛ لما روى عن جابر -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَفْرَدَ" (٣) وروى مثله ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ -رضي الله عنهم (٤) - ورجح الشافعي -رضي الله عنه- رواية جابر على رواية رواة القرآن والتمتع بأن جابراً أقدم صحبة وأشد عناية بضبط المَنَاسِك وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- من لَدُن خروجه من المدينة إلى أن تَحَلَّل.

وأما قوله: (لو اسْتَقبَلتُ مِنْ أَمْرِي" الخبر فإنما ذكر تطييباً لقلوب أصْحَابه واعتذاراً إليهم، وتمام الخبر ما روى عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَحْرَمَ إِحْرَاماً مُبْهماً وَكَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلاثَةِ، فَنَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلْيَجْعَلهُ حَجّاً، وَمَن لَمْ يَسُقْ فَلْيَجْعَلْهُ عُمْرَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَطَلْحَةُ قَد سَاقَا الْهَدْيَ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَأمَرَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا إحْرَامَهُمْ عُمْرَةً، وَيتَمَتِّعُوا، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِحْرَامَهُ حَجّاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأنَّهُمْ كَانُوا يعتَقدون من قبل أن العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك، وأظهر الرَّغْبَة في موافقتهم، لَوْ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيِ" (٥) فإن الموافقة الجَالِبة للقلوب أهم بالتَّحْصِيل من فَصِيلة وقربة، واتفق الأصْحَاب عَلى القولين، على أَنَّ النَّبِيَّ


(١) أخرجه البخاري (١٥٥١، ١٧١٤، ١٧١٥، ٢٩٥١، ٢٩٨٦)، ومسلم (١٢٣٢).
(٢) أخرجه البخاري (١٥٥٧، ١٥٦٨، ١٥٧٠، ١٦٥١، ١٧٨٥، ٢٥٠٦، ٤٣٥٢، ٧٢٣٠، ٧٣٦٧) ومسلم (١٢١٣، ١٢١٤، ١٢١٥، ١٢١٦).
(٣) أخرجه البخاري (١٥٦٨) ومسلم (١٢١٨).
(٤) حديث ابن عباس عند مسلم (١٢٤٠)، وعائشة -رضي الله عنها- عند البخاري (١٥٦٢) ومسلم (٢١١).
(٥) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (١/ ٢٣٢)؛ لا أصل له، نعم رواه الشافعي من حديث طاوس مرسلاً ...

<<  <  ج: ص:  >  >>