فأقول: ليس في لفظ الكتاب ما يقتضي التصوير في بقاء اللون وحده، بل يتناول الخبيص المزعفر وانْصِبَاغ اللِّسَان به يشتمل ما إذا بقيت الرَّائِحَةُ مع اللون، وما إذا لم يبق، فيحمل اللفظ على الحالة الأولى، لئلا يخالف جوابه الأصح عند الجمهور وفيهم الإمام، ويؤيده أنه قال عقيبه: لدلالة اللون على بقاء الرائحة، ولو كان التصوير في بقاء اللون وحده لما انتظم دعوى دلالته على بقاء الرائحة، وعلى كل حال فقوله:(لزمته الفدية) مُعَلَّمٌ بالحاء، لأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يوجب الفدية بأكل الطيب أصلاً.
الثالثة: لو خفيت رائحة الطِّيب، أو الثوب المطيب بمرور الزمان عليها أو بغبار وغيره، نظر إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الرّائحة منه لم يجز اسْتِعْمَالُه، فإن بقي اللون فقد قال الإمام -رحمه الله-: فيه وَجْهَانِ مبنيان على الخِلاَف المذكور في أن مجرد اللون هل يعتبر، والصحيح أنه لا يعتبر، وحكى أيضاً تردداً للأصْحَاب فيما إذا انغمر قدر من الطيب، في الكثير مما ليس بِطِيبٍ كماء ورد انمحق في ماءٍ كثير.
منهم: من قال: تجب الفدية باستعماله لاستيقان اتصال الطيب به، وكون الرائحة مغمورة لا زائلة.
ومنهم من قال -وهو الأصح-. لا تجب الفدية لِفَقْدِ الرائحة وَفَوَاتِ مَقْصُودِ التَّطَيُّبِ، فلو انغمرت الرائحة ولكن بقي الطَّعْمُ أو اللون ففيه الخِلاَف السَّابق.
قال الرافعي: الأمر الثَّانِي: الاستعمال، وهو أن يلصق الطِّيب ببدنه، أو ملبوسه على الوَجْهِ المعتاد في ذلك الطِّيب، فلو طيب جزءاً من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق أو ماء ورد لزمته الفدية.
وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أن الفدية التَّامة إنما تلزم إذا طَيَّبَ عضواً، أو رُبُعَ عُضْوٍ فإن طيّب أقل منه لم يلزمه، ولا فرق بين أن يتفق الإلصاق بظَاهِرِ البَدَنِ، أو باطنه كما لو أكله أو احتقن به أو استعط، وقيل: لا تجب الفدية في الحُقْنَة والسَّعُوطِ، ثم في الفصل صور:
إحداها: لو عَبَقَ بِهِ الريح دون العَيْنِ بأن جلس في حَانُوتِ عَطَّارٍ، أو عند الكعبة