= أخرج بالعقد المعاطاة. وبالمعاوضة نحو الهدبة. وبالمالية نحو النكاح. وبإفادة ملك العين الإجارة. وبغير وجه القرية القرض. والتقييد بالتأبيد لتخرج الإجارة أيضاً. وإخراج الشيء الواحد بقيدين غير معيب. وهذا أولى من التحريف، بأنه مقابلة مال بمال على وجه مخصوص؛ من التعريف بالأعم المحال على مجهول. ولو عرف أيضاً بأن عقد معاوضة محضة مقتضى ملك عين أو منفعة على الدوام لا على وجه القربة، لكان وافياً بالمقصود، فخرج بالمعاوضة الهبة، وبالمحضة النكاح، ويملك العين الإجارة، وبغير وجه القربة القرض، والمراد بالمنفعة المؤيدة بيع حق الممر للماء مثلاً؛ لأنه لا يصل الماء إلى محله إلا بواسطة ملك غيره. هل البيوع الجائزة من أجل المكاسب وأطيبها، أو غيرها من المكاسب أجل منها، اختلف الناس في ذلك: فقال قوم: الزراعات أَجَلُّ المكاسب كلها، وأطيب من البيوع وغيرها، لأن الإنسان في الاكتساب بها أعظم توكلاً، وأقوى إخلاصاً وأكثر لأمر الله تفويضاً وتسليماً. وقال آخرون: إن الصناعات أجل كسباً منها، وأطيب من البيوع وغيرها؛ لأنها اكتساب ينال بكد الجسم وإجهاد النفس، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ العَبْدَ المُحْتَرِفَ" فظاهر الاحتراف بالنفس دون المال. وقال آخرون: البيوع أجل المكاسب كلها، وأطيب من الزراعات وغيرها، وهو أشبه بمذهب الشافعي والعراقيين حتى إن محمد بن الحسن قيل له: هلا صنعت كتاباً في الزهد فقال قد فعلت قيل فما ذلك الكتاب قال هو كتاب البيوع. والدليل: على أن البيوع أجل المكاسب كلها إذا وقعت على الوجه المأذون فيه، أن الله عز وجل صرح في كتابه بإحلالها فقال: "وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ، ولم يصرح بإحلال غيرها، وردت عائشة قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ" والكسب في كتاب الله التجارة، وروى واقع بن خديج قال: قال رجل يا رسول الله أي العمَل أطيب فقال: "عَمَلُ الرَّجُل وَكُلُّ بَيْعٌ مَبْرُورُ". ولأن البيوع أكثر مكاسب الصحابة وهي أظهر فيهم من الزراعة والصناعة، ولأن المنفعة بها أعم والحاجة إليها أكثر؛ لأن ليس أحد يستغني عن ابتياع مأكول أو ملبوس، وقد يستغني عن صناعة وزراعة. فإن قيل: فقد روى سلمان فقال: "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها؛ فإن فيها باض الشيطان وفرخ" فاقتضى أن يكون مكروهاً. نقول هذا غلط: كيف يصح أن يكره ما صرح الله بإحلاله في كتابه، وإنما المراد بذلك أن لا يصرف أكثر زمانه إلى الاكتساب، ويشتغل به عن العبادة، حتى يصير إليه منقطعاً وبه متشاغلاً، أما روي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن السوم قبل طلوع الشمس" يريد أن الرجل لا يجعله أكثر همه حتى يبتدئ به في صدر يومه، لا أنه حرام. فإن قيل: فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَا تُجَّارُ كُلُّكُمْ فُجْارٌ إلاَّ من أَخَذَ الحَقَّ وَأَعْطَى الحَقَّ" فجعل الفجور فيهم عموماً، ومعاطاة الحق خصوصاً، وليست هذه صفات أجل المكاسب. قيل: إنما قال ذلك؛ لأن من البيوع ما يحل، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكره. كما روي عنه أنه قال: "لَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَا اتَّجَرُوا إِلاّ في البَرِّ، وَلَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ مَا اتَّجَرُوا إلاَّ فِي الصَرْفِ" قال ذلك استحباباً في التجارة في البر، وكراهة التجارة في الصرف. وحكمه مشروعية البيع أنه لا يخفى على المستبصر أن مشروعية البيع من أهم دواعي الحياة، وأسمى وسائل العمران، وأصل سبيل الاستعمار؛ إذ عليه تدور رحى الحياة، وعلى قوائمه تحمل عروش الانتظامات والقوانين، وبه =