للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإجماع (١)، وآيات الكتاب نحو قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (٢) (٣) وقوله تعالى:


= تبادل المنافع بين المالكين؛ كيف لا ولولا البيع وما يتعلق به من الإجارة والقرض والرهن ما استقام نظام، ولا حصلت راحة بين الأنام، ولولاه ما انشق الكون، وانتظمت المعيشة الدنيوية، وسهلت طرق المرافق الحيوية، فبالبيع ظهرت مدنية الإنسان، قال حكيم: "الإنسان مدني بالطبع" يعني كل فرد من أفراد المجموع الإنساني محتاج إلى أفراده في ضرورة تبادل منافعه، وضروريات حاجياته احتياج الكل إلى أجزائه، والعرش إلى قوائمه لأنه كلما تأخر الدين ربا ما عليه وزاد حتى يستفرق جميع ما عنده من العروض، وما يملك من المزارع فيستولي عليه المرابي ويأخذه بغير حق ظلماً وطمعاً، نعم يأكل مال أخيه المسلم من غير فائدة عادت عليه، ولا ثمرة من المال ردت إليه، ولا انتفع إلا بالخسارة، وذهاب ما عنده من العروض والتجارة، وأنت تعلم ما دفعه إلا العوز، ولا دعاه إلا الاحتياج؛ لكن بالبيع أمكنه، ويمكنه، أن يتحاشى هذا الضرر، ويتجنب البؤس ويعيش عيشة راضية؛ ولذلك أحل الله البيع وحرم الربا، وشدد النكير على فاعليه في كتابه الأقدس فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فقد شدد النكير على فاعليه، وهددهم بالحرب إن لم ينتهوا؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اثْنَانِ يُحَارِبُهُمَا اللهُ وَرَسُولُه: آكِلُ الرِّبَا، وَعَاقُّ وَالِدَيْهِ" ثم من لطيف رفق الله بالمتعاقدين أيضاً أن جعل لهما الخيار؛ لدفع المضرة وسهولة المعاملة، حتى لا يجحف أحد المتعاقدين؛ إذ ربما يجد في البيع عيباً باطناً لا يتنبه له إلا بالرؤية والإمعان والفكرة، فجعل لهما الخيار لكي يتمكنا من التنقيب والتفتيش (وبالجملة): فالبيع عنوان الوفاق ورائد الرشاد والركن الركين الذي تنبني عليه مصالح عزيزة تعود على الإنسان بالخير والفضل في الدنيا والسعادة في الآخرة.
(١) أما الإجماع فمن الأمة فظاهر فهم لا ينكرونه. وكذا الصحابة فقد أجمعوا على حله. فقد روي أن أبا بكر كان تاجراً في البر. وروي عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان تاجراً في الطعام والأقط. وروي عن عثمان أنه كان تاجراً في البر والبحر. وروي عن العباس -رضي الله عنه- أنه كان تاجراً في العطر. وعلى ذلك جرت أحوال الصحابة قبل البعثة وبعدها. فمنهم من كان يفرد جنساً منها ومنهم من كان يقلب في جميع صنوفها كعثمان. إذاً تقرر حل البيع.
(٢) سورة البقرة، الآية ٢٧٥.
(٣) [لبيان جهة الدلالة من هذه الآية نقول: إنها تحتمل أربعة أقاويل:
أحدهما: أنها عامة وأن لفظها لفظ عموم يتناول إباحة كل بيع إلا. ما خصه الله بالدليل؛ ووجه ذلك هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن ساعات كانوا يستعملونها، ولم يقصد إلى بيان الجائز بل قصد بيان فاسدها؛ دل ذلك على أن الآية قد شملت إباحة الساعات كلها فاستثنى منها ما لا يجوز منها؛ فعلى هذا هل هي عامة أريد بها العموم؟ أو عامة أريد بها الخصوص؟ على قولين:
أحدهما: أنها عامة أريد بها العموم وإن دخلها التخصيص.
والثاني: أنها عامة أريد بها الخصوص. والفرق بينهما من وجهين: =

<<  <  ج: ص:  >  >>