= والمشتري باختيارهما"- وأما الربا، وهو عبارة عن إعطاه الدراهم، والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل. "وأقول - وهي لا تعطي بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار". وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع: وهو أن النقدين إنما وضعا؛ ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال، فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استقلال المال بالمال؛ فينمو المال ويربو عندهم، ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة: "بالبنوك" وينجس العاملون في أعمالهم، لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقفت الناس في استغلال المال عند حد الضرورة، لما كان فيه مثل هذه المضرات، ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها أي فلا بد لها من الوازع الذي يوفقها بالاقناع، أو الإلزام، لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة. وأما واضعو القوانين، فإنهم يضعون للناس الأحكام، بحسب حالتهم الحاضرة، التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل، والبعد عن الرذائل، وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا فقد عفت فيها رسوم الدين وقلّ فيها التعاطف، والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير فيها ليموت جوعاً، ولا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه؛ فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة، والعمال على أصحاب الأموال واغتصابهم المرة بعد المرة، لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره، بل يعطونهم أقل مما يستحقون وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلاباً كبيراً في العالم؛ ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة، وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألّف تولستوي الفيلسوف الروسي كتاباً سماه: "ما العمل" وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره: "إن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار "الجنيه" عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوماً ما". قال -رحمه الله تعالى-: "وهذه بلادنا قد ضعف التعاطف والتراحم فيها وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر فرضاً فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين أنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلاً عليه" قال: "رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بالمحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضاً طلبه إلا بسند وشهود فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل وتقسم عليهم أو تحلفهم ألا يذكروا ذلك. قال: نعم. قلت: فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء؟ قال لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي: قلت وأخبرني أن هذا =