قال الرافعي: في المتغير بالتراب المطروح فيه قصداً وجهان: وقيل قولان:
أحدهما: أنه ليس بطهور؛ لأنه تغير بمخالطة مستغنى عنه فأشبه التغير بِالزَّعْفَرانِ.
والثاني: وهو الأظهر: أنه على طهوريته، لأن التغير الحاصل بالتراب ليس إلا الكُدُورَة وهي لا تسلب اسم الماء؛ ولأن التراب يوافق الماء في الطَّهُورِيَّةِ؛ ولأن الشرع أمر بالتعفير في وُلُوغِ الكَلْبِ، ولو سلب طرح التراب في الماء الطهورية لما أمر به. وأما المتغير بالمِلْحِ المطروح فيه، فينظر فيه إن كان الملح مائياً، فوجهان: أظهرهما: أنه طهور؛ لأنه منعقد من عين الماء كَالجَمدِ، وَالثَّلْجِ. والثاني: لا، وليس الملح عين الماء، بل المياه نزلت عذبة من السماء، ثم تختلط بها الأجزاء السَّبَخَات (١) فتنعقد ملحاً، ولهذا لا يذوب في الشمس ولو كان منعقدًا من الماء لذاب كالجمد، وإن كان جبلياً ترتب على المائي أن سلبنا الطهورية ثمة، فههنا أولى؛ وإلا فوجهان: أظهرهما: السلب أيضاً، لأنه خليط مستغنى عنه غير منعقد من الماء، ومن لم يسلب زعم أنه في الأصل كان ماء أيضًا، ولهذا يذوب في الماء، وإذا أطلقت الكلام في الملح فقل في التغير به ثلاثة أوجه: ثالثها: الفرق بين الجَبَلِيِّ وَالمَائِيِّ تَشْبِيهاً للمائِيِّ بِالجَمْدِ، واستبعد الإمام الغزاليُّ ذلك.
وقال: لو كان كالجَمْدِ لذاب في الشمس، ولكن تعليله التشبيه بالتراب المطروح فيه قصداً؛ لأن ماء البحر ملح وملوحته من أجزاء سبخة في الأرض تنتشر فيه فالملح إذا من أجزاء الأرض فإن حصل التغير به من غير قصد كماء البحر فهو طهور كالمتغير بالتراب من غير قصد، وإن كان بقصد فهو على الخلاف كالمتغير بالتراب المَطْرُوح فيه قصداً، وهذا معنى قوله في الكتاب:"ويقرب منه الملح" إلى قوله: "فيضاهي التراب".
ولك أن تقول: الملح إما أن يكون فيه ما ينعقد من مَحْضِ الماء أو لا يكون إن كان فتشبيهه بالجمد قويّ، ولهذا لو تغير الماء العَذْبُ بذلك الماء المِلْحُ لم يؤثر فكذلك التغير بالمنعقد منه.
والقول بأنه لو كان كالجَمْدِ لذاب في الشمس: ممنوع على هذا التقدير؛ بل من المُنْعَقد الماء ما يذوب، ومنه مالا يذوب وإن لم يكن فيه ماء ينعقد من محض الماء بل كان كل ملح من أجزاء الأرض فإنما يتضح تشبيه الخلاف فيه بالخلاف في التراب أن لو جرى ذلك الخلاف في جميع أجزاء الأرض وليس كذلك، بل نص الأصحاب على أنه
(١) السَّبْخَة: ما يعلو الماء من طحلب ونحوه. ينظر المعجم الوسيط ١/ ٤١٤.