والطريقة الثانية: القطْع بالأول، وثبوتُه بالشَّاهد واليمين؛ لأن المقصودَ منْه إظهارُ استحقاقِ المَنْفَعَة، لا لأنَّ الرقبةَ مِلْكٌ له.
والثالثة: عنْ روايةِ القاضِي أبي الطيِّب: القطْع بالقَوْل الثاني، وحمل ما ذكره هاهنا عَلَى أنَّه لا يملك البيع ونحوه من التصرُّفات، هذا كله فيما إذا وقَف عَلى شخْص معيَّن أو جهةٍ عامَّةٍ. وأمَّا إذا جَعَلَ البُقْعةَ مَسْجِداً أو مقبرةً، فهو فكٌّ عن المِلْك؛ كتحرير الرقبة، فينقطع عنها اختصاصات الآدمِيِّين، وليْسَ ذلك موْضِعَ الخلاف. وقوله في الكتاب:"وإنْ كان عَلَى مُعَيَّن ... " إلى آخر الأقوال الثلاثة يخرَّج منه طريقتان:
إحداهُمَا: أنَّه إذا وقَفَ عَلَى معيَّن، فهو مِلْكُ الموقوف علَيْه بلا خلاف، وإن وقَف على جهةٍ عامَّةٍ، فالمِلْكُ لله -تعالَى- بلا خلاف.
والثانية: أنَّ في الحالَتَيْنِ الأقوالَ الثَّلاثَة، ثم إنَّهُ اختارَ الطَّريقةَ الأُولَى، واستبعد نقل الملْك إِلَى الله -تعالَى- في الموقوف على المعيَّن؛ لأنَّه ليْسَ من القُرُبات، ونقل الملْك إلى الموقوف عليه في الجهات العامَّة؛ لأنَّ الوقف قد يكونُ على الرِّبَاطَاتِ، والقناطِرِ، وما لا يُنْسَب إليه ملْكٌ، هكذا وجِّه (١) في "الوسيط".
واعْلَمْ أنَّ عائشة الأصحاب ساكِتُون عن الطريقة الأُولَى، وعن الفَرْق بيْن أن يوقف على معيَّن أو على جهة عامَّة.
والأظهَرُ عندهم من الأقْوَال إضافةُ المِلْك إلى الله -تعالى- ولهم أنْ يقُولُوا في الجواب أمَّا أنَّ الواقف على المعيَّن، ليس من القُرُبَات، ففيه كلامٌ، وعلى التَّسْلِيم، فليس المعنَى، بكَوْن المِلك لله -تعالَى- سوى انفكاكِ المحلّ عن ملك الآدميِّين، واختصاصهم، وذلك لا يَتوقَّف على القُرْبة، وقصدها؛ ألا تَرَى أن الكافر إذا أعْتَقَ، صار العتق لله -تعالى- وإن لم يكنْ منه قربةً.
وأمَّا الثاني: فقد قدَّمنا أنَّ المسجد، والرِّباط قد يكون لهما مِلْكٌ، كما يكون عليهما وقْفٌ.
وقوله في الكتاب:"وقيل بإطلاق ثلاثة أقوال" لا يتعلَّق بقوله: "ثم إن قال مسْجِداً" بل الغرضُ منْه الإشارة إلَى حالَتَي الوقْف على المعيَّن، على الجِهَةِ العامَّة.
وقوله في أَوَّل الفَصْل:"وتأثيره إزالة المِلْك" الأشبهُ أن تعود الكتابة إلى اللُّزوم، يعني أنَّ تأثيرَ اللزومِ إزالةُ المِلْك، ثمَّ إنْ كان المرادُ منه ملك [الرقبة، ففيه الخلافُ المذكور من بعْدُ، وإن كان المرادُ ملْكَ] التصرُّف والمنفعة، فهو قريبٌ من قوله بعده: