الثانية: في جنايته، فإنْ أتَى بما يوجِبُ القصاص، واقتُصَّ منه، فقد ضاع حقُّ المالك، والموصَى له جميعاً، وإن وجب المال، تعلَّق برقبته، فإن لم يفدياه، بِيعَ في الجناية، وبَطَل حقهما، ويتقدم حق المجنيِّ عليه علَى حقهما، فإنْ زاد الثمن على الأرش، قال أبو الفرَجَ السرخسيُّ: يُقَسَّمُ بينهما على نسْبَة حقِّهما، وينبغي أن يجيءَ فيه الخلافُ السابِقُ، وإن فدياه، استمر الحقَّان، وإن فداه مالك الرقبة فكذلك، وإن فداه الموصَى له، فوجهان في لزوم الإجابة على المجنيِّ عليه:
أحدهما: لا يلزم؛ لأنه أجنبىٌّ عن الرقبة.
وأشبههما: اللزوم؛ لظهور غرضه فيه، وهذا فيما إذا فَدَى أحدهما العبْدَ بمنافعه، فإن فدَى حصته، قال أبو عبد الله الحناطىُّ: يُبَاعُ نصيب صاحبه، وفيه إشكال؛ لأنه إنْ فدَى مالك الرقبة، فكيف تباع المنافع وحْدَها؟ وإنِ فدَى الموصَى له، واستمر حقُّه فَبَيْعُ الرقبة يكُونُ على الخلاف الذي مَرَّ في أن الوارث، هلْ يبيح الرقبة؟
وقوله في الكتاب:"فإن فداه السيد اسْتمرَّ حقُّه" يعني حقَّ الموصَى له، وتخصيص السيد بالذِّكْر يمكن أن يكون إشارةً إلى الخلاف في أن فداء الموصَى له، هل تلزم إجابته، أو والاختيار أنها لا تلزم.
الثالثة: كيف يُحْسَبُ الوصية بالمنفعة منْ الثُّلُث؟ إن أوصَى بالمنفعة أبداً، فوجهان، ويُقَال: قولان:
أحدهما: أنه يُعتبر الرقبةُ بتمام منافِعِها من الثلث، كما لو باع بثَمَنٍ مؤجَّلٍ يعتبر قيمته من الثلث، وهذا؛ لأنه حَالَ بينها وبين الوارث، والحيلولة كالإتلاف؛ ألا تَرَى أن الغاصِبَ يضمن بها؟ وأيضاً فإن منافع الرقبة وفوائِدَها قد بطَلَتْ على الوارث، فكأنه قد فوَّتها بالكلية.
والثاني: خرَّجه ابن سُرَيْجٍ: أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها وقيمتها مسلوبة المنفعة؛ لأن الرقبة باقيةٌ للوارث، فلا معنى لاحتسابها على الموصَى له، وهذا أصحُّ عند صاحب الكتاب وطائفة، والأولُ أصحُّ عند الأكثرين، وهو نصه في اختلاف العراقِيِّينَ في "الإملاء"، وبه أجاب ابن الحدَّاد، ووجه أيضاً بأن المنفعة أبداً هي التي أوصَى بها، والمنفعة أبداً لا يمكن تقويمُها؛ لأن المنفعة أبداً يُعْنَى بها منفعةُ مدة العمر، ومدةُ العمْرِ غَيْرُ معلومةٍ، فمنفعة مدةِ العُمْرِ غيرُ معلومةٍ، وما لم يُعْلَمْ ولا يضبط لا يمكن تقويمُهُ.
وإذا تعذَّر تقويم المنافع وحدها، تعيَّن تقويم الرقبة؛ وحُكِيَ هذا الوجهُ عن أبي إسحاق.