للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا حُكْمُ الوَدِيعَةِ فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الجَانِبَيْنِ يَنْفَسِخُ بِالجُنُونِ، وَالإِغْمَاءِ، وَالمَوْتِ، وَبِعَزْلِهِ نَفْسَهُ، وَإِذَا اَنْفَسَخَ بَقِيَ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً في يَدِهِ كالثَّوْبِ تُطَيِّرُهُ الرِّيْحُ إِلَى دارِهِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوديعةُ تَرْتَفِعُ بجنون المودِع، أو المودَع، وبالموت والإغماء (١)؛ لأنَّها إن كانت مجرَّد إذْن في الحفْظ، فالمودِعُ بعروض هَذه الأحوال يبطل إذْنُه، والمودَع يخرج عن أهلية الحفظ، وإن كان عقداً، فقد ذكرنا أنَّه توكيلٌ خاصٌّ والوكالة جائزة، ومتَى أراد المودِع الاسترداد، لم يكن للمودَع رده ومتَى أراد المودَع [الردَّ، لم يكن للمودعِ أنَّ يمتنع من القبول؛ لأنه متبرع بالحفظ، ولو عزل المودَعُ نفسه] (٢)، ففيه وجهان؛ تخريجاً عَلَى أن الوديعة مجرَّد إِذنٍ أم عقدٌ؟ إن قلنا: بالأول، فالعَزْل لغْوٌ، كما لو أذن في تناول طعامه للضِّيفان، فقال بعضهم: عَزَلْتُ نفْسِي يلغو قوله: "ويكون له الأكلُ بالإذْنِ السابق" فعلَى هذا تبقى الوديعةُ بحالها، وإن قلنا: إنَّها عقدٌ، ارتفعت الوديعة، ويبقَى المَالُ أمانةً شرعيَّةً في يده كالريح تُطَيَّرُ الثَّوب إلَى داره، وكاللُّقَطَةِ في يد الملتِقِط بعد ما عرف المَالِكَ، فعليه الردُّ عند التمكُّن، وإِن يطلب لم على أظهر الوجهين، فإن لم يفعل، ضمن وهذا ما أورده في الكتاب ويجوز إعلام قوله: "عقد جائز" بالواو، وقوله: "ويعزله نفسه" بل قوله: "ينفسخُ" لأن لفظ الانفساخ؛ إنما يستمر على تقدير كونها عقداً.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلِلوَدِيعَةِ عَاقِبَتَانِ ضَمَانٌ عِنْدَ التَّلَفِ، وَرَدٌّ عِنْدَ البَقَاءِ أَمَّا الضَّمَانُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عِنْدَ التَّقْصِيرِ، وَلِلتَّقْصِيرِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ: الأَوَّل أَنْ يُودِعَ عَنْدَ غيْرِهِ سَوَاءٌ أَوْدَعَ زَوْجَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّاً، إِلاَّ أنْ يُودِعَ عِنْدَ القَاضِي فَإنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، وَلَوْ حَضَرَهُ سَفَرٌ فَسَافَرَ بِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ حَرْزَ السَّفَرِ دُونَ حِرْزِ الحَضَرِ، إِلاَّ أنَّ يُودِعَ في حَالَةِ السَّفَرِ، فَطَرِيقُهُ عِنْدَ السَّفَر: أنَّ يُرَدَّ إِلَى المَالِكِ، فَإنْ عَجَزَ فَإِلَى القَاضِي، فَإِنْ عَجَزَ فَعِنْدَ أَمِينٍ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا التَّرْتِيبَ مَعَ القُدْرَةِ ضَمِنَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الكُلِّ فَسَافَرَ بِهِ تَعَرَّضَ لِخَطَرِ الضَّمَانِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَمَهْمَا تَبَرَّمَ بِالوَدِيعَةِ فَسَلَّمَهَا إِلَى القَاضِي عِنْدَ العَجْزِ عَنِ المَالِكِ، فَفِي لُزُومِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ، جَارِيَانِ في الغَاصِبِ، وإِذَا حَمَلَ المَغْصُوبَ إلَى القَاضِي، وَفِيمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ، وَإذَا حُمِلَ الدَّيْنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ فَلَمْ يُوصِ بِالوَدِيعَةِ ضَمِنَ إِلاَّ أنْ


(١) قال الشيخ جلال الدين البلفيني: وكذا الحجر عليه بالسفه. صرح به الماوردي وهو ظاهر ويلزم مثله في الوكالة.
(٢) سقط في: ز.

<<  <  ج: ص:  >  >>