للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محْضَةٌ ثم ذكر المسعوديُّ وطائفةٌ: أَن اسم كلِّ واحدٍ من المالَيْنِ يقع على الآخر، إِذا أُفرد بالذَّكْر، فإِذا جمع بينهما، افترقا؛ كاسمَيْ الفَقِيرِ والمِسْكِين.

وقال الشيخُ أَبو حاتم القزوينيُّ وغيره: اسمُ الفَيْءِ يشملُ المالَيْن، واسمُ الغنيمةِ لا يتناوَلُ الأوَّلَ، وفي لفظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر" ما يُشْعِر به، وبيانُ قسمةِ المالَيْنِ تقع في بابين:

أَحدهما: في الفيء، والأَصْلُ فيه قولُهُ تعالى: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: ٧] فمنه ما جلى عنه الكفار خَوْفاً من المسلمين، إِذا سمعوا خَبَرَهُمْ، وما جلوا عنه؛ لضُرٍّ أَصابهم، وجزية أَهل الذِّمَّة، وما صولِحَ عليه أَهْلُ بلدٍ منهم،


= وقال آخرون: الغنيمة والفيء بمعنى واحد.
فالغنيمة: اسم لما أخذه المسلمون من الكفار، بإيجاف الخيل أو الركاب فما أخذه المسلمون من أهل الذمة أو من الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، وما أخذه الذميون من أهل الحرب لا يسمى غنيمة ولا تجرى عليه أحكامها.
قد صح أن الغنيمة كانت محرمة في الشرائع السّابقة، وإنما أُبيحت لأمة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- خاصّة، قال تعالى في سورة الأنفال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} ضمن ما فضل الله به الرسول عليه الصلاة والكلام، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسَتٍّ: أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الْكَلِم، وَنُصِرِتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لي الْغَنَائِم، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طهُورًا وَمَسْجِدَاً، وَأُرْسِلْتُ إلى الْخَلْقَ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبيُّونَ" -وروى البخاري عن همّام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غَزَا نَبِيُّ مِنَ الأنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبِعَنِي رَجُلٌ مَلَكَ بِضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أنْ يَبْنِيَ بِهَا ولمَّا بَيْنَ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتاً، وَلَمْ يَرفَع سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحدٌ اشْتَرَى غَنَمَاً أَوْ خَلَفَاتٍ، وَهُوَ ينْظُرُ وِلاَدَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقرْيةِ صَلاةَ الْعَصْرِ أوْ قَرِيبْاً مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَة وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبسْهَا عَلَيْنَا فَحُبسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِمْ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ فَجَاءَت -تَعْنِي النَّارُ- لِتَأْكُلَهَا فَلَم تُطْعَمْهَا فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُوْلاً، فَليُبَايعْنِي من كُلِّ قَبِيلةٍ رَجُلٌ فَلَزقَتْ يَدُ رَجُلٍ بَيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قِبِيْلَتُكَ فَلَزَقَتْ يَدْ رَجُليْنَ أَوْ ثَلاثَةٍ بَيَدِهِ فَقَال: فِيكُمُ الْفَلُولُ فَجَاؤوا بِرَأْس مِثْلُ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَب، فوضعوها فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَاَ فَأَحَلَّهَا لَنَا".
وبهذه الآية والأحاديث أَخذَتِ الغنائم في الإِسلام حكم الحلّ، ونزل فيها قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية- بياناً لطريق قسمتها.
والحكمة في حِلِّ الغَنائم أن المجاهدين لما خرجوا عن أموالهم وأولادهم، وتركوا الاشتغال بأمور معاشهم رغبة في الجهاد في سبيل الله، ونشر دينه وإعلاء كلمته، وعرضوا أنفسهم لركوب الأخطار واستقبال الموت من أبوابه المختلفة، تفضل الله عليهم بنباحة الغنائم لهم تقوية لعزائمهم وَحَفْزًا لهممهم وتنشيطاً لهم على الجهاد، وكسراً لشوكة الكفار وإذلالاً لهم بقتلهم، وأسرهم، وسلب ما يتمتعون به من نعم الله التي أغدقها عليهم، ولم يقوموا بشكرها، وايذاناً بأنهم ليسوا أهلاً لها، لعنادهم واستكبارهم عن عبادته.

<<  <  ج: ص:  >  >>