ثم إذا ما رجعنا إلى أرباب الملل والنحل نجد أبا الفتح الشهرستاني يقول في كتابه الملل والنحل في بحث الصابئة أن مدار مذهب الصابئة على التعصب للروحانيات كما أن مدار مذهب الحنفاء على التعصب للبشر الجسمانيين" ولعله يعني بذلك أنه أصل مذهبهم الذي امتازوا به أولاً وحفظوه في صدورهم. هذا ومن العسير جداً تتبع أطوار مذهب هذه الطائفة لفقدان بحضن حلقاتها في بعض الأزمنة والعصور التي مرت عليهم. الأمر الذي يجعل الباحث يركب متن الظن والاحتمال لعدم تمكنه من القطع -ثم إذا ما تصفحنا كتب المذاهب الفقهية لنتعرف منها أقوال الفقهاء في الصابئة نجد أن الإِمام أبا حنيفة يرى أنهم قوم من النصارى يقرؤون الزبور ويعظمون الكوكب كتعظيم المسلمين للكعبة. لكنهم يخالفون غيرهم من أهل الكتاب في بعض دياناتهم. وأما المالكية وأبو يوسف ومحمد ابن الحنفية فذهبوا إلى أنهم عبدة أوثان. والشافعية فصلوا فيهم تفصيلاً حاصلة -أنهم إن وافقوا النصارى في أصل الاعتقاد وخالفوهم في الفروع فهم منهم. وإن خالفوهم في الاعتقاد ووافقوهم في الفروع أو شُكَّ في ذلك فليسوا منهم- وفي رواية عن الشَّافعي أنه توقف فيهم. ولم يقطع برأي لأنه رأى أو مذهبهم مشتبه فعلَّق القرار منهم -والحنابلة لهم فيهم قولان- قول كأبي حنيفة. وآخر مفصّل كتفصيل الشافعية. وقد انبنى على الخلاف السابق بين الفقهاء في مذهب الصابئة اختلافهم في مسألتنا. حكم تزوج المسلم بالصابئة:- فذهب الإِمام أبو حنيفة والحنابلة في أحد قوليهم إلى جواز مناكحتهم متى كانوا يؤمنون بنبي ويقرون بكتاب -وذهب الصاحبان من الحنفية والمالكية إلى عدم جواز ذلك. أما الشافعية والحنابلة في قولهم الآخر فذهبوا إلى التفصيل فيهم فإن كانوا يوافقون أهل الكتاب في أصل دينهم ويخالفونهم في الفروع فهم منهم تحل مناكحتهم- وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين فلا تحل. تمسك من قال بالحل: بأن الصابئة كأهل الكتاب إلا أنهم خالفوهم في بعض الفروع فلا يكون ذلك مانعاً لهم من أخذهم حكمهم في حل نسائهم. ولا تكون مخالفتهم مخرجة لهم من دائرتهم. فهم أشبه بأهل البدع من المسلمين لم تكن بدعهم مانعة لهم من صدق الإِسلام عليهم واعتبارهم مسلمين. وتمسك القائل بالتحريم:- بأنهم كالمشركين في عبادتهم الأصنام فتحرم نساؤهم لأن المشركات محرمات بالنص. واحتج المفصلون: بأن الصابئة إذا خالفوا أهل الكتاب في الاعتقاد كانوا مشركين لتوحيد أهل الكتاب دونهم فتحرم نساؤهم كالمشركين. وأما إن خالفوهم في الفروع دون الاعتقاد فلا يضر ذلك في أخذهم حكم أهل الكتاب في حل النساء. إذ مخالفتهم غير معتبرة في حق حكم التزوج فإن شك في أمرهم غلب جانب الحرمة على جانب الحل فتحرم نساؤهم احتياطاً في حق الأبضاع. وقد أجيب عن دليل القائلين بالتحريم. =