للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: ٢] والعَوْد هو أن يُمْسكها في النكاح بقَدْر ما يمكنه مفارقتها فيه، واحتج له بأنَّ العَوْد للقَوْل عبارة عن مخالفته، فيقال قال فلانٌ قولاً، ثم عاد فيه، وعادله، أي خالفه ونَقَضه، وهو


= لأن العود للقول مخالفة، يقال قال فلان قولاً، ثم عاد له، وعاد فيه. أي: خالفه، وهو قريب من قولهم عاد في هبته إذا رجع فيها ونقضها.
وقالت المالكية: هو العزم على الوطء مع نية الإمساك، أو هو الوطء نفسه.
ووجهة المالكية أن العزم قول نفس، والمظاهر قال قولاً يقتضي التحليل، وهو النكاح، وقال قولاً يقتضي التحريم، وهو الظهار، ثم عاد لما قال، وهو قول التحليل، ولا يصح أن يكون ذلك القول عقد النكاح؛ لأنه بَاقٍ، فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده، وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أِمِّي" وإذا كان كذلك كفَّر، وعاد إلى أهله ولا يكون ذلك إلا بعد بقاء إمساكها.
وقالت الحنفية: هو العزم على الوطء فقط. ودليلهم ما تقدم للمالكية، ويؤيد ذلك ما ثبت من حديث أوس بن الصامت أما دعا امرأته إليه بعد ظهاره منها، فقالت له: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي، وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللهُ ورسوله.
وقالت الحنابلة: هو الوطء نفسه؛ لأن الكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا تجب بغير الحنث كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود، وهو فعل ما حلف على تركه، وهو الجماع؛ ولسان الظهار يمين يقتضي ترك الوطء، فلا تجب الكفارة إلا به كالإيلاء.
وقالت الظاهرية: هو تكرير اللفظ الذي قاله؛ لانه لا يعقل من اللغة غير هذا؛ وبهذا جاءت السنة عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: إِنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ امرأة أوس بن الصامت، وكان به لمم، فكان إذا اشتد لممه ظاهر منها، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه آية الظهار، فهذا يقتضي التكرار ولا بد.
وبالنظر في وجهة كل نجد أن الحق مع من يقول إن العود هو العزم على الوطء مع بقاء الإمساك لأن الله -سبحانه وتعالى- ذكر العود بكلمة "ثُمَّ" "ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوْا" وهي تقتضي التراخي الزماني، والإمساك معقب لا متراخي الذي قالت به الشافعية، وليس هو الوطء، كما قالت الحنابلة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فلو كان العود هو الوطء لما كان لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} معنى، وأيضًا فإن تعلق الحكم بالموصول دليل على عليَّة ما في حيِّز الصلة، وما في حيِّز الصلة هو الظهار والعود، فلو كان المراد من العود الوطء لما كان لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} موقع؛ لأن الوطء محرم قبل التكفير، فلا يصح أن يراد من العود، وإلا كان مأمورًا به قبل التكفير مَنْهِيًّا عنه قبله، وهو باطل، كما لا يصح أن يراد منه العزم فقط إذ لو كان هو العود لما سقطت الكفارة بعد الطلاق بعد العزم على الوطء، كما لا يصح أن يراد به إعادة اللفظ؛ لأن العود يقتضي أمرين:
أمرًا يعود إليه، وأمرًا يعود عنه، ولا بد منهما، فالذي يعود عنه يتضمن نقضه وإبطاله، والذي يعود إليه يتضمن إيثاره وارادته، فعود المظاهر يقتضي نقض الظهار وإبطاله، كما يقتضي رجوعه إلى الحالة التي كان عليها قبل الظهار، وهي: حِلُّ الاسْتِمْتَاعِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>