للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= للخلاف فيه إن وجد، وإنما الخلاف الذي وجد بينهم وله ثمرته هو: هل الحدود كفارات لما أقيمت فيه من الذنوب؟ فمن أقيم عليه الحد في معصية شرع فيها الحد لم يعذب عليها في الآخرة -أو ليست كفارات لها؟ فيعذب في الدنيا عليها ولا يغنيه ذلك عن عذاب الآخرة.
مذاهب العلماء:
ذهب الجمهور من العلماء. ومنهم الشافعية والظاهرية إلى أن عذاب الدنيا مسقط لعذاب الآخرة. وذهب آخرون إلى أنه لا يسقطه إلا إذا انضم إليه توبة خالصة، وبه جزم بعض التابعين، وعليه الحنفية والمعتزلة، وبعض المفسرين كالبغوي. وتوقف آخرون فقالوا لا ندري أعذاب الدنيا مسقط لعذاب الآخرة أم غير مسقط له.
استدل الفريق الأول بما روي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا بهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفي منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم يستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك.
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر فيما ذكر من المعاصي الزنا والسرقة وهما من الذنوب التي شرع فيها حد معلوم في الدنيا وأخبر أن من ارتكب ذنبًا من الذنوب التي ذكرها في الحديث وعوقب عليها في الدنيا كان العقاب كفارة لذنبه وهذا صريح في أن عذاب الدنيا مسقط لعذاب الآخرة مطلقًا تاب أو لم يتب. لأن الحديث لا ذكر للتوبة فيه ويؤيد هذا ما روي عن علي -كرم الله وجهه- من حديث المبايعة وفيه من أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوية على عبده في الآخرة.
واستدل الفريق الثاني بما ورد من الآيات القرآنية مشتملاً على الوعيد بالعذاب الأخروي على ارتكاب تلك المعاصي. مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وقوله تعالى في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ووجه الدلالة من هذه الآيات: ظاهر فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب في تلك المعاصي حدودًا مقدرة في الدنيا ومع ذلك فقد أخبر بأن فاعلها سيعاقب في الآخرة ما لم يتب توبة خالصة. بل إن بعض الآيات يفيد أنه معذب سواء تاب أم لم يتب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ...} الآية.
ولكن هذا الظاهر غير معمول به عند جمهور العلماء لأن التوية من الذنب نافعة لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ =

<<  <  ج: ص:  >  >>