وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. وأما أصحاب الرأي الثالث فقد استندوا فيما ذهبوا إليه إلى أن الأدلة في هذا الباب متعارضة ولم يوجد ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، فوجب التوقف، وحجتهم في ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أدري أتبع كان لعينًا أم لا وما أدري ذو القرنين كان نبياً أم لا وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا" وهو حديث صحيح على شرط الشيخين، وهو صريح في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يعلم أن الحدود كفارات لأهلها أم لا. فغيره -صلى الله عليه وسلم- أولى في هذا الباب بعدم العلم، فيجب عليه عدم الحكم بشيء معين وأن يتوتف. ونحن إذا نظرنا إلى أن حديث عبادة بن الصامت لم ينفرد بسماعه من الوسول -صلى الله عليه وسلم- بل تابعه عليه كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كابن عمر، وعلي وابن مسعود، والحسن بن علي، وعائشة، وأن هؤلاء جميعاً قد أخبروا بما يفيد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أقيم عليه حد في الدنيا فهو كفارة له" وذلك يقضي بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد علم عن ربه عَزَّ وَجَلَّ أن الحدود كفارات لذنوبها وعلمه بذلك لا يتنافى مع قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: "ما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا" لإمكان الجمع بينهما يحمل حديث أبي هريرة على أنه متقدم على حديث عبادة. وأما قول القاضي عياض ومن تبعه أن حديث عبادة متقدم على حديث أبي هريرة لأن إسلام أبي هريرة -رضي الله عنه- كان بعد الهجرة بسبع سنين، والمبايعة المذكورة كانت ليلة العقبة بمنى قبل الهجرة "فغير مسلم" لأن حديث أبي هريرة لم يصرح فيه بالسماع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- مباشرة فيحتمل أن يكون أبو هريرة قد سمعه عمن سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في مبدأ التشريع قبل أن يحصل له العلم بذلك ويخبر به. وكون هذه المبايعة كانت ليلة العقبة بمنى غير صحيح لما ذكر في البخاري في كتاب الحدود أن تلك المبايعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- كانت بعد فتح مكة، وبعد أن نزلت آية الممتحنة التي وردت في مبايعة النساء بعد الحديبية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قرأ الآية بتمامها في تلك المبايعة وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: "قرأ علينا آية النساء" وعند مسلم من طريق معمر عن الزهريّ قال: "فتلى علينا آية النساء قال: "ألا يشركن ... " الآية" وعند الطبراني من هذا الحديث قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء يوم الفتح" فهذه الرواية أوضح دليل على أن هذه المبايعة كانت بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، فكذلك هذا يدل على أن الجمع المتقدم صحيح، وأن الحدود كفارات وبذلك يضعف استناد الواقفين إلى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وإذا نظرنا إلى أن أكثر الآيات القرآنية المفيدة للوعيد بالعذاب الأخروي على تلك الجرائم التي شرعت فيها الحدود قد أعقب هذا الوعيد بالتوبة، وأن الآيات التي لا ذكر للتوبة فيها ينبغي أن تقيد بها دفعاً للتعارض بين الأدلة، وحملاً للمطلق على المقيد وأن حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وإن لم تذكر فيه التوبة صراحة إلا أن ذلك لا يقتضي عمد اعتبارها في محو الذنب؛ لأن المؤمن شأنه التوبة عند حصول المعصية والندم عليها بعد حصولها, ولذلك تركها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن المعتبر شأنًا كالمذكور لفظاً. =